كشفت الأزمةُ المتفاقمة بين لبنان ودول الخليج العربي عيوباً في الأداء الرسمي والخاص من الجانب اللبناني، ليس في إدارة الملف فحسب، بل في اقتصار المقاربة والتباري من الكثيرين في الدولة والقطاع الخاص، على تشخيصِ أي إجراءٍ تعتمده دول مجلس التعاون منفردةً أو متضامنةً بميزان الربح والخسارة فقط، والتغاضي في غالبية الأحيان، سواء قصداً أم عفواً، عن الضرر اللاحق بعمق الروابط الأخوية والإستراتيجية، التي استفاد منها لبنان على مدى عقود، من دون أي شروطٍ أو مطالب خليجية تمسّ بسيادته وإدارة سياساته داخلياً وخارجياً.

ورصدت مصادر مواكبة انزعاجاً في أوساط اقتصادية واستثمارية واجتماعية لبنانية وخليجية، من التركيز على النتائج المادية للأزمة الطارئة، وتوجُّهاً مبدئياً لمعاودة إعلاء المفاهيم التَشارُكية لمنظومة العلاقات وحقائقها التاريخية والمستقبلية، التي يدركها بعمقٍ رجال الأعمال والمستثمرون في لبنان ومنطقة الخليج، مع ترجيحِ انضمامِ أصواتِ مجموعاتٍ نقابية وثقافية، بهدف حصْر المشكلة في نطاقها السياسي وتبعاتها الاقتصادية، بحيث يتم التصويب على المسبّبات واحتوائها، بالتوازي مع إبداء الحرص على حجب أي ضرر يصيب المقومات الثابتة، لمنظومة العلاقات المشتركة، سواء على المستويات الثنائية من بلدٍ الى بلدٍ، أو على المستوى الخليجي الجامع.

ويلاحظ المصرفي فوزي فرح في حديث مع «الراي»، أن تكرار معزوفة «المصالح المشتركة» ليس صائباً على الاطلاق، بل هو خطأ جسيم في توصيف الوضعية التفاضُلية التي حظي بها لبنان، في منظومة تعاملاتِ البلدان الخليجية مع البلدان العربية الشقيقة والقائمة بمجملها من منطلقات الدعم للاقتصادات الوطنية الضعيفة، وتخصيص بلدنا بالمشاركة الفعالة في نهوضه عبر التمويل السخي بالمِنح وبالقروض الميسّرة للمشاريع الإنمائية والإعمارية.

ويلفت إلى أن ذلك يأتي إلى جانب وعبر التدفقات الاستثمارية في غالبية قطاعاتنا الحيوية، والتملّك العقاري، والسياحة وفتْح الأسواق للعمالة الوافدة بعشرات الآلاف في مؤسساتها وشركاتها، مع منْحها امتيازات خاصة، والمساندة الأخوية بأسمى مشاعر التضامن وبسخاءٍ يتعدّى أي قيودٍ حسابية خلال الأزمات والحروب والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة.

ويضيف: «بمعزل عن العوامل الإنسانية ذات القوة الراجحة في تكوين منظومة العلاقات التاريخية بين لبنان ودول مجلس التعاون، فكيف يستوي أن نتحدث عن مصالح متبادلة بين القوة الاقتصادية الهائلة لبلدان الخليج بمجموعِ ناتجٍ محلي يتخطى 1.5 تريليون دولار وتقوده السعودية بناتجها الذي يزيد على 805 مليارات دولار وبموقعها ضمن مجموعة أكبر 20 اقتصاداً عالمياً ( G20 )، وبين ناتجٍ محلي لبناني وصل إلى 56 مليار دولار في أفضل مستوياته قبل أن ينحدر حالياً إلى أقلّ من 30 مليار دولار؟ وكيف يتم الاستدلال عن المصلحة المشتركة بين صاحب الحاجة وصاحب الكفاية، ما دام لبنان يستفيد إلى الحد الأقصى من مداه الخليجي الحيوي من دون أي طلباتٍ أو شروط مُقابِلة».

مصالح مشتركة

ويرى فرح وجوب الإقلاع تماماً عن لغة المصالح المشتركة التي تطغى على التصريحات والتحليلات المحلية، فهي وإن كانت تترجم واقعياً استفادة لبنان على كل المستويات، إلا أنها لا تعكس حقائقَ النسيج المتين للعلاقات العائلية والصداقات ومشاعر الودّ والاحترام التي جمعت اللبنانيين دائماً مع أشقائهم في دول الخليج، فقلّما تجد عائلةً لبنانيةً ليست متّصلة بأفراد أو مؤسسات خليجية، بل إن الكثير من الأجيال الثالثة للمقيمين اللبنانيين في السعودية والكويت والامارات، لا يعرف من بلده الأصلي سوى قضاء العطلات ومواسم الصيف. وبذلك فإن الوفاء واجب.

ويعتبر فرح من واقع تجربته العملية مقيماً لفترة سنوات من عمله الوظيفي المصرفي في الكويت والامارات ومُساهِماً مستمراً في بناء شبكة مع المستثمرين الخليجيين، وتأمين مشاركتهم في مؤسسات محلية، أن الخطابات التي تقارب الأزمة من مدخلها المادي البحت تقفز فوق حقائق راسخة، يعود الفضل فيها الى أجيال خليجية متعاقبة توارثت تمييز لبنان وأهله واقتصاده في تعاملاتها الخارجية.

ويضيف «علينا التأمل جيداً، ومن المؤلم حقاً أن نقيس تعاطينا مع دول شقيقة بميزان ما نجنيه من فوائد منها، فالأصل أن بلدان الخليج ليست مَطابع للنقد أو شركات للتوظيف، بل هي المدى الحيوي الشقيق والذي منح لبنان وأهله تاريخياً، ميزاتٍ تَفاضُليةً عزَّ نظيرها في منظومة علاقات البلد الخارجية من دون أي منّة ولا أي مكسب، سواء على المستوى العربي أو على المستوى الدولي».

سجل تاريخي

ويتابع أنه من الظلم إخضاع هذه الوضعية الخاصة لمعايير مسألة طارئة، والقفز العشوائي فوق سجلّ تاريخي ناصع ومضيء بمساهمات اللبنانيين في نهوض اقتصادات الخليج، ومساهمات أهلنا الخليجيين الثمينة في حقبات المحن والحروب كما في زمن السلم وازدهار الاقتصاد.

وإذ يرى فرح ضرورة حصر المعالجة السياسية للملف بالمؤسسات الدستورية المعنية لدى الطرفين، والاستعانة بأصدقاء مشتركين، بهدف التوافق على فصل الممكن من المعالجة عن المتعذِّر، وتبيان وقائعه من دون تسويف أو مواربة، فإنه يلحّ على أولوية الصدق والوفاء في مراعاة مشاعر الأهل والمحبين في بلدان الخليج، ولا سيما أن التركيز على الجانب المادي البحت يمثل سقوطاً أخلاقياً ولو كان من غير قصد، كونه يؤذي فعلياً رصيد الصداقات والعلاقات الاجتماعية، التي رافقت الأعمال والاستثمارات المشتركة أو نَتَجَتْ منها».

ويؤكد فرح «عند حدوث أي أزمة في لبنان، وما أكثر تكرارها سياسياً وأمنياً واقتصادياً، يُسارِعُ الأصدقاء في بلدان الخليج إلى التواصل المباشر معنا، وهم لا يكتفون بالاطمئنان، بل يعرضون دائماً وبأسمى عبارات المحبة والتضامن تلبيةً فورية لكل ما قد نحتاجه، وبالخلاصة علينا تغليب الحكمة والعقل في المقاربة واحتواء الأزمة الطارئة لِما فيه مصلحتنا، مع ضرورة التعبير الصادق بالقول وبالفعل عن الحد الأدنى من الوفاء لحماية منظومة العلاقات التاريخية والبناء للمستقبل».