يقف الجيش اللبناني أمام مروحة واسعة من التحديات الـ «ما فوق عادية»، فكلما تعاظمت الأزمة السياسية في البلاد تتجه الأنظار إلى المؤسسة العسكرية كـ «صمام أمان» للاستقرار الهش، تماماً كما هو الآن مع تعاظم التحديات أمام حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المترنّحة فوق «لغم» الصراع حول التحقيق في «بيروتشيما» وانفجار الأزمة مع دول الخليج العربي.
والجيش، الذي لم يَعُد وضعه على «ما يرام» في ظل الانهيار المالي – الاقتصادي في لبنان يعاند للبقاء «كاسحة ألغام» لمنع الانزلاق إلى ما هو أسوأ.
ورغم أنه لا ينجو من الحملات السياسية المتعددة الطرف والهدف، استمر عصياً على محاولات استدراجه إلى الصراع بين أطراف اللعبة في الداخل، في الوقت الذي «يقاتل» لتأمين مستلزمات صموده عبر مساعدات ومعونات من الخارج بعدما بدت الدولة عاجزة ومتلاشية.
قائد الجيش العماد جوزف عون، الذي يزور الولايات المتحدة حالياً، وضع على الطاولة في اللقاءات الواسعة التي يجريها المصاعب التي تعانيها المؤسسة العسكرية بسبب الانهيار المالي وانعكاساته الموجعة على الجيش.
فأمام مجموعة من الباحثين الأميركيين من أصل لبناني، كما أمام أعضاء في الكونغرس ومسؤولين من الحزبين الجمهوري والأميركي كان عون حاسماً في التصميم على قيام الجيش بمهامه رغم التحديات التي يواجهها على مستوى الصمود المعيشي.
ومن غير المستبعد أن تكون أثيرت حاجة الجيش إلى ما بين 90 إلى 100 مليون دولار سنوياً لتمكين القيادة من تأمين 100 دولار إضافية على رواتب العسكريين الذين يعانون مصاعب فعلية مع تبخر رواتبهم التي لم تعد تتجاوز الـ70 أو 80 دولاراً مع الارتفاع المتفلت لسعر الصرف في السوق الموازية، أي السوق السوداء.
ولم يعد خافياً أن تلك المصاعب بدأت تؤثر سلباً على المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية الأخرى واضطرارها إلى اتخاذ إجراء يقضي بمنع سفر عناصرها للحد من ميلهم الاضطراري لمغادرة تلك المؤسسات تحت طائلة الحاجة، فوحده الجيش خسر أكثر من خمسة آلاف عسكرياً غادروا المؤسسة لدوافع «معيشية».
ورغم الاهتمام الإعلامي والسياسي بمدّ الجيش اللبناني أخيراً، مؤسسة كهرباء لبنان، بجزء من مخزونه الاحتياطي من الفيول بغية إنقاذ لبنان من العتمة الشاملة، فإن الأمر يتناقض كلياً مع الوضع المزري الذي يعيشه الجيش والقوى الأمنية كافة، نتيجة الانهيار المالي الذي لحق برواتب العسكريين.
فالجيش لا يعيش حالياً أفضل أيامه، في ظل الأزمة المالية التي تطوله، وفشل المؤتمرات الدولية، وآخرها مؤتمر باريس، في مده بالمال والمساعدات اللازمة لتحسين أوضاع عسكرييه.
وكل يوم يمر من دون تدخل دولي أو عربي فاعل، يعني مزيداً من انهيار أوضاع العسكريين.
وهذا يشكل واحداً من الهموم التي تعيشها المؤسسة العسكرية في محاولة تأمين مساعدات استطاعت قيادتها توفير بعضها من دول صديق عربية وغربية، وهي تصل دورياً إلى بيروت، وغالبيتها حصص غذائية ووجبات طعام للجنود وعائلاتهم.
علماً أن هذه قد تكون واحدة من أقسى الأزمات الحياتية التي يواجهها الجيش، وفي شكل أكثر حدة مما عاشه من تجارب خلال الحرب الطويلة التي كان شهدها لبنان سابقاً.
لكن في الوقت الذي يفتش الجيش عن مصادر تمويل عبر المساعدات وصناديق دعم ولا سيما لتغذية الرواتب المتدنية، ومن دون جدوى حتى الساعة، فإن ثمة ارباكات عدة تحوط بوضعه في إطار التجاذبات السياسية الداخلية.
ففي غضون الأسابيع القليلة الماضية، تم رصد ثلاثة أنواع من الضغوط على المؤسسة العسكرية لم تصب في خانتها إيجاباً، وهي:
• بلوغ تهوُّر القوى السياسية حد تفجير الوضع الأمني عبر تحريك الشارع على خلفية الموقف من التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، وهو ما تسبب بأحداث الطيونة الدامية التي جهد الجيش لتطويقها ومنع تمددها رغم سقوط 7 قتلى في صفوف تظاهرة لجمهور حركة «أمل» و«حزب الله».
ورغم رفع التحدي الأمني في وجه الجيش، فإنه نجح أولاً في تدارك الوضع، وتمكّن ثانياً من إنجاز تحقيقاته بسرعة قياسية وعلى نحو مهني بعيداً عن الضغوط القاسية التي تعرّض لها ومحاولة توريطه من القضاء العسكري في أجندات سياسية.
• كلام لافت سبق أن قاله رئيس المجلس التنفيذي في «حزب الله» السيد هاشم صفي الدين، عن دور أميركي في الإدارات اللبنانية، وسحب تدريجي لدور الجيش في موضوع ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل.
وتحدث صفي الدين عن أن الأميركيين «يؤثرون في لبنان أمنياً وسياسياً ومالياً واقتصادياً، وهم أقوياء في الدولة اللبنانية، ولديهم الكثير داخلها، ولكن نحن حتى الآن لم نخض معركة إخراج الولايات المتحدة من أجهزة الدولة، ولكن إذا جاء اليوم المناسب وخضنا هذه المعركة، فسيشاهد اللبنانيون شيئاً آخر».
والمثير أن هذا الكلام لأحد المسؤولين الكبار في «حزب الله»، جاء في وقت كان لواشنطن دور فاعل ومؤثر في عملية الإخراج السياسي لولادة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي تعتبر قريبة من الحزب.
ورغم أن توضيحات غير رسمية صدرت حول موقف «حزب الله» وأن الجيش لم يكن مقصوداً بالكلام، إلا أن تداعياته أعطت إشارات سلبية، في وقت يكثر الحديث لبنانياً عن فتور في العلاقة بين الطرفين، نتيجة العلاقة بين الجيش والولايات المتحدة، والتي تشعبت في الآونة الأخيرة.
علماً ان هذه العلاقة قديمة وتتم بمعرفة الحزب، ويزور قادة الجيش واشنطن في صورة دورية كل سنة على غرار زيارة العماد جوزف عون الحالية.
إلا أن الانطباع الأكثر حضوراً هو أن العلاقة الحالية بين الطرفين (الجيش والأميركيين) تزداد تشابكاً، خصوصاً بعد الأزمة المالية التي يعيشها الجيش بفعل انهيار العملة اللبنانية، وحاجاته المتزايدة إلى المساعدات العسكرية الأميركية، إضافة إلى التنسيق الأمني والاستخباراتي الدائم بين الجانبين.
وتثير هذه العلاقة حساسيات سياسية في وقت تتقاطع الأوضاع اللبنانية الداخلية بين الانتخابات الرئاسية وطرح اسم العماد جوزف عون كأحد المرشحين المحتملين، وبين بروز دور المؤسسة العسكرية المحوري في وقت تنهار أسهم القوى السياسية لدى اللبنانيين.
وكلما اقترب الاستحقاق الرئاسي زادت التكهنات والضغوط حول اسم قائد الجيش، وهذا ما جعل كلام صفي الدين يحمل التباسات تصب في هذه الخانة.
• إبعاد الجيش تدريجاً عن ملف ترسيم الحدود البحرية.
فثمة انطباعات أن صفقة ما تم التفاهم حولها سابقاً وجرى إخراجها بطريقة سلسة عبر تولي الحكومة ورئاسة الجمهورية مباشرة ملف الترسيم، وهذا يسحب من يد الجيش ملفاً بالغ الحساسية والأهمية، بعدما استحوذ عليه لفترة زمنية، وقدّمه على أنه إنجاز يُحسب له في تكريس حق لبنان بزيادة مساحات بحرية تعود إليه.
في حين أن ما بدأ التمهيد له، هو أن الوساطة الأميركية في نسختها الجديدة، التي يبدو أن الحكومة في صدد الموافقة عليها، تتعلق بتوزيع الحصص المستخرجة من الغاز في المنطقة المتنازَع عليها عبر شركات نفط بين لبنان وإسرائيل.
وهذا الأمر يتعلق بحاجة لبنان الماسة والسريعة إلى استخراج النفط وضخ أموال فيه بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة.
على أن الجيش لا يرى الأمر على هذا النحو، بل يعتقد أن هناك ملفاً وطنياً كان يفترض بلبنان التمسك به حتى النهاية.
اذ لولا دور الجيش وإصراره في المفاوضات على حق لبنان، لكانت إسرائيل طالبت بأكثر مما تسعى إليه حالياً.
لكن بدءاً من تغيير الوفد المفاوض بعد إحالة رئيسه العميد بسام ياسين إلى التقاعد، وصولاً إلى عدم الأخذ بكل ما يقدمه الجيش من وثائق علمية وليس مجرد تبريرات لفظية، والعودة إلى مقترحات أميركية سابقة وبتغطية من الحكومة، فإنه يمكن القول إن إبعاد الجيش عن المفاوضات يتحقق تدريجاً.
علماً أن قائد الجيش استبق محاولات التطويق بقوله في لقاء مع كبار الضباط أخيراً أن ملف المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل ينتظر القرار السياسي للبت فيه واتخاذ القرار المناسب.
وإذ رمى عون الكرة في ملعب رئاسة الجمهورية التي يأتمر الجيش بها كون رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وفي ملعب الحكومة التي تتخذ القرار السياسي، يكون أعطى إشارة أولى حقيقية إلى أن الجيش أصبح عملياً خارج إطار التفاوض.
وسيكون الملف من الآن وصاعداً رهناً بالحوار الذي بدأ مع زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند لبيروت قبل وصول الوسيط الأميركي الجديد اموس هوكشتاين.