ما فعله لبنان بنفسه أمر أكثر من طبيعي في حال أخذنا في الاعتبار الظروف التي يمر فيها البلد منذ ما يزيد على ستة عشر عاما. لا يمكن عزل الوضع اللبناني عن الوضع العربي والخلل الذي حصل على الصعيد الإقليمي منذ ربيع العام 2003. ما يشهده لبنان منذ فترة طويلة، وصولاً إلى أزمة في غاية الخطورة بينه وبين دول الخليج العربي، في مقدّمها المملكة العربيّة السعوديّة، نتيجة حال من اللاتوازن في المنطقة. بدأت هذه الحال بعد اتخاذ الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش الابن قراراً باجتياح العراق.

أقدمت الإدارة الأميركية، وقتذاك، على خطوة في غاية الخطورة لم تدرك مسبقا بما ستتسبب به على الصعيد الإقليمي. قدّمت العراق على صحن فضة لإيران التي كان لديها ثأر قديم عليه، خصوصا بعد صموده في مواجهتها في حرب استمرّت ثماني سنوات بين 1980 و 1988.

ما آل اليه لبنان تتويج لسلسلة من الانتصارات تحققت على لبنان بدفع إيراني، خصوصا منذ اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في العام 2005 ثمّ حرب صيف 2006. صار لبنان رهينة إيرانيّة وصولاً إلى تحوّله قاعدة من القواعد التي تستخدمها "الجمهوريّة الإسلامية" في حربها غير المباشرة على دول الخليج العربي بشكل خاص وعلى المنطقة العربيّة من المحيط إلى الخليج عموما. ليس جورج قرداحي، وهو شخص ذو ارتباطات معروفة، سوى تعبير عن وضع معيّن نشأ في ضوء اختلال التوازن الإقليمي ليس إلّا. مكّن هذا الوضع "الحرس الثوري" من فرض قرداحي وزيراً للإعلام إرضاء لبشّار الأسد والأجهزة السوريّة ليس إلّا.

مثل هذا الاختلال في التوازن الإقليمي جعل لبنان تحت السيطرة الإيرانيّة ولا شيء آخر. لم تعد في لبنان حكومة ترى مصلحة لبنان، حتّى لو أرادت ذلك. في الوقت نفسه لا وجود لرئيس للجمهوريّة، مثل ميشال عون، يتجرّأ على تسمية الأشياء بأسمائها. أسوأ ما في الأمر أن عدداً لا بأس به من رجال السياسة الموارنة مضطر إلى الاستتزلام لـ"حزب الله" وإظهار الولاء له على أمل الوصول إلى قصر بعبدا. ما نراه حاليا من سباق بين جبران باسيل، صهر رئيس الجمهوريّة، والوزير السابق سليمان فرنجية الذي يُعتبر جورج قرداحي محسوباً عليه، على استرضاء "حزب الله" يدخل في إطار المنافسة بينهما على الوصول إلى قصر بعبدا.

ليس لبنان المكان الوحيد الذي يظهر في الاختلال في التوازن الإقليمي الذي سمح لإيران بان تكون صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة فيه. هناك اليمن حيث التركيز الإيراني على الاستيلاء، بأيّ ثمن، على مدينة مأرب ذات الأهمّية الاستراتيجيّة. يعمل الحوثيون (جماعة أنصار الله)، وهم أداة إيرانيّة، ليلاً نهاراً على موضوع مأرب. قدموا إلى الآن آلاف القتلى من اجل استكمال سيطرتهم على المدينة.

ما حصل في العراق ابتداء من العام 2003، لم يكن حدثا عاديا بمقدار ما كان زلزالا لا تزال ارتجاجاته تتردّد إلى الآن. ما يجري في العراق يفسّر إلى حدّ كبير ذلك الاستعجال الإيراني في ابتلاع لبنان. لذلك نجد كلّ هذا التضايق لدى "حزب الله" بسبب ظهور مقاومة مسيحيّة، غير متوقّعة، في حي الرمّانة لدى تعرّضه في الرابع عشر من أكتوبر الماضي لغزوة شنّها مناصرون لحركة "أمل" وعناصر من "حزب الله". لم يكن الحزب يتصوّر انّه لا يزال في لبنان مسيحيون على استعداد للتصدي له متى تعلّق الأمر بالاعتداء على أحيائهم وبيوتهم وممتلكاتهم. اعتقد الحزب أن كلّ المسيحيين على شاكلة جورج قرداحي أو جماعة ميشال عون وجبران باسيل...

نرى إيران مستعجلة في تكريس واقع لبناني جديد مختلف كلّيا عن لبنان الذي عرفناه والذي عرفه العرب. تسعى إلى ذلك بسبب وضعها غير المريح في العراق. مثل هذا الواقع اللبناني الجديد يتمثّل في عزل لبنان عربياً، وتحويله إلى ناطق باسم الحوثيين ومن على شكلهم، كما فعل وزير الإعلام في حكومة نجيب ميقاتي...

سيزداد الضغط الإيراني من اجل تغيير طبيعة لبنان. هناك فرصة لا تعوض بالنسبة إلى "الجمهوريّة الإسلاميّة" في ظلّ إدارة أميركية غير مبالية بلبنان. لكن السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلاً أم آجلاً هل سيبقى الوضع في المنطقة على حاله إلى ما لا نهاية؟ لا جواب عن مثل هذا السؤال، لكنّ الأكيد أنّ إيران تسجّل نقاطا في اليمن، لكنّها تتراجع في العراق. كذلك، ليس ما يشير إلى أن كلّ شيء على ما يرام في سورية بالنسبة إلى "الجمهوريّة الإسلاميّة". نعم، وضع إيران ليس على ما يرام في سورية، على الرغم من أن رأس النظام السوري لا يستطيع امتلاك هامش للمناورة في ضوء معرفته التامة بانّه على رأس نظام أقلّوي بات مصيره مرتبطا ارتباطا عضويا بالميليشيات المذهبيّة التابعة لإيران. ليس بعيداً اليوم الذي سيترتب فيه على إيران أن تقرّر هل لديها القدرة على البقاء في الجنوب السوري، الذي تنوي تهديد إسرائيل منه أم لا؟ انعكست الكارثة التي تسببت بها إدارة بوش الابن في العراق على لبنان الذي يتحمّل أبناؤه جزءا كبيرا من المسؤولية عمّا حل ببلدهم. ما ذنب المملكة العربيّة السعوديّة إذا كان لبنان تحوّل مصدرا لتهريب المخدرات إليها وصارت بيروت ثاني اهمّ مدينة للحوثيين بعد صنعاء؟ ليس جورج قرداحي سوى تفصيل صغير وذلك على الرغم من كميّة ثقل الدمّ التي يتمتع بها. كلّ ما في الأمر، في نهاية المطاف، أنّ لبنان، في ضوء سيطرة "حزب الله" عليه، بات جزءا لا يتجزّأ من معادلة إقليمية ليس معروفا ما الذي سترسو عليه، خصوصاً أنّ عوامل كثيرة تلعب ضدّ "الجمهوريّة الإسلاميّة" ومشروعها التوسّعي الخطير وليس معه...