لم يكن ينقص حكومة الرئيس نجيب ميقاتي إلا أزمة ديبلوماسية حادة مع دول الخليج العربي لتكتمل حلقة الأزمات في الداخل ومع الخارج، والتي باتت بإزائها وبعد نحو شهر ونصف الشهر من ولادتها وكأنها تقف على «رِجْل ونصف» في مواجهة أخطر المنعطفات في تاريخ لبنان الحديث.
ففيما كانت الحكومةُ المحاصَرة بأعتى الأزمات الداخلية المتناسلة في المال والاقتصاد والسياسة تصارِع لتفادي الفوضى الشاملة في ظل التوترات التي بدأت تلامس الاستقرار الأمني، هبّت على لبنان أزمة ديبلوماسية «عاصِفةٌ» مع دول الخليج على خلفية مواقف لوزير الإعلام جورج قرداحي، اتهم فيها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بشنّ «عدوان» على اليمن داعياً لوقف هذه «الحرب العبثية»، ومعتبراً «أن الحوثيين يدافعون عن أنفسهم».
ورغم أن مواقف قرداحي التي بُثت يوم الاثنين كانت من حلقة تلفزيونية تم تسجيلها في 5 أغسطس الماضي، أي قبل تعيينه وزيراً، فإن هذا «التبرير» لم يكن كافياً لإمرار ما أدلى به و«كأنه لم يُقل» ولا لمحو «ما استبطنه من نياتٍ»، وسط ملاحظة أن مجلس التعاون الخليجي عبر أمينه العام نايف الحجرف، تولى رسْم سقف الاعتراض على «تصريحات وزير الإعلام اللبناني التي تعكس فهْماً قاصراً وقراءة سطحية للأحداث في اليمن»، مطالباً إياه «بعدم قلب الحقائق وبالاعتذار عما صدر منه من تصريحات مرفوضة»، ومؤكداً «أن على الدولة اللبنانية أن توضح موقفها تجاه تلك التصريحات».
الكويت
وإذ تحوّلت ردود الفعل المستنكرة «بقعة زيت»، سارعت الكويت إلى استدعاء القائم بالأعمال اللبناني هادي هاشم وسلمته مذكرة احتجاج رسمية، تتضمن رفض دولة الكويت التام لهذه التصريحات، التي تتنافى مع الواقع ولا تمت للحقيقة بصلة، وتتعارض مع أبسط قواعد التعامل بين الدول.
وأعربت وزارة الخارجية، في بيان، عن «استنكار ورفض دولة الكويت الشديد للتصريحات الإعلامية الصادرة عن وزير الإعلام اللبناني» تجاه السعودية والإمارات، والتي «اتهم فيها البلدين الشقيقين باتهامات باطلة تناقض الدور الكبير والمقدر الذي تقومان به في دعم اليمن وشعبه، والتي لم تعكس الواقع الحقيقي للأوضاع الحالية في اليمن، وتُعتبر خروجاً عن الموقف الرسمي للحكومة اللبنانية، وتغافلاً عن الدور المحوري المهم للمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والتحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن».
السعودية
بدورها، استدعت الخارجية السعودية السفير اللبناني في الرياض احتجاجاً على تصريحات قرداحي و«ما تضمّنته من إساءاتٍ تجاه المملكة ودول تحالف دعم الشرعية في اليمن والتي تُعَدّ تحيزاً واضحاً لميليشيا الحوثي الإرهابية المهدِّدة لاستقرار المنطقة وأمنها»، معتبرة أن هذه التصريحات «لا تنسجم مع العلاقات بين الشعبين الشقيقين وتتنافى مع الأعراف السياسية».
ولفتت إلى أنه «نظراً لما يترتب على تلك التصريحات المسيئة من تبعات على العلاقات بين البلدين، استدعت الخارجية السعودية السفير اللبناني وسلّمته مذكرة الاحتجاج الرسمية».
البحرين
وفي السياق نفسه، استدعت وزارة الخارجية البحرينية السفير اللبناني وسلمته مذكرة احتجاج، «عبّرت فيها عن استنكار المملكة الشديد» للتصريحات التي أدلى بها الوزير تجاه السعودية والإمارات، «وما ساقه تجاه مجريات الحرب في اليمن من ادعاءات باطلة تنفيها الحقائق الموثقة والبراهين المثبتة دولياً».
وأكدت الوزارة، في مذكرتها، أن «الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها جماعة الحوثي الإرهابية، بحق الجمهورية اليمنية وشعبها الشقيق، واعتداءاتها المستمرة على المملكة العربية السعودية، منذ انقلابها غير الشرعي على الحكومة، تدحض هذه التصريحات غير المسؤولة التي خالفت الأعراف الديبلوماسية، ومثلت إساءة مقصودة لدول تحالف دعم الشرعية في اليمن، وتجاهلت المبادئ والقيم التي تحكم العلاقات الأخوية بين الدول العربية».
الإمارات
إلى ذلك، أعربت الإمارات عن «استنكارها واستهجانها الشديدين إزاء هذه التصريحات المشينة والمتحيزة»، والتي أساءت إلى دول تحالف دعم الشرعية في اليمن.
واستدعت وزارة الخارجية والتعاون الدولي سفير الجمهورية اللبنانية وأبلغته احتجاجها واستنكارها لهذه التصريحات، «التي تعد مهاترات تتنافى مع الأعراف الديبلوماسية، وتاريخ علاقات لبنان مع دول التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، وتنم عن الابتعاد المتزايد للبنان عن أشقائه العرب».
حراك في بيروت
وكان اليمن عبر سفيره في بيروت عبدالله الدعيس اعتبر أن قرداحي «بتصريحه ليل الثلاثاء، زاد الطين بلّة إذ لم يقدّم أي اعتذار بل أكّد على ما أدلى به»، قبل أن يودِع الخارجية اللبنانية رسالة استنكار شديدة لتصريحات وزير الإعلام بوصفها «خروجاً عن الموقف اللبناني الواضح تجاه اليمن وإدانته للانقلاب الحوثي ودعمه لكافة القرارات العربية والأممية ذات الصلة».
وفي موازاة ذلك، تولى السفير السعودي في بيروت وليد بخاري التعبير عن استياء الرياض ومقاربتها لهذا الملف عبر «ديبلوماسية» مزدوجة:
• الأولى تحرّك عبرها في اتجاه السفير الكويتي عبدالعال القناعي، بعد زيارةٍ قام بها للسفير اليمني قبل أن يؤكد بخاري في تصريح «على موقف المملكة في شأن دعم الشرعية في اليمن، لإنهاء الأزمة اليمنية والتوصل إلى حل سياسي، وفق المرجعيات المتمثلة في المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وقرار مجلس الأمن 2216»، متوقفاً عند «مواصلة الحوثيين المدعومين من إيران للأعمال العدائية والعمليات الإرهابية بإطلاق الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة المفخخة لاستهداف المدنيين والأعيان المدنية في المملكة العربية السعودية، ومخالفة القانون الدولي والإنساني باستخدام السكان المدنيين في المناطق المدنية اليمنية دروعاً بشرية، وإطلاق القوارب المفخخة والمسيّرة عن بعد، يمثل تهديداً خطيراً للأمن الإقليمي والدولي».
وشدّد بخاري «على الحق المشروع لقيادة تحالف دعم الشرعية في اليمن لاتخاذ وتنفيذ الإجراءات والتدابير اللازمة للتعامل مع هذه الأعمال العدائية والإرهابية، وعلى ضرورة منع تهريب الأسلحة إلى هذه الميليشيات»، مشيداً «بكفاءة قوات الدفاع الجوي الملكي السعودي في اعتراض تلك الصواريخ، والطائرات، والتصدي لها والتي بلغت أكثر من 404 صواريخ باليستية، 791 طائرة مسيّرة، وأكثر من 205 ألغام بحرية».
• والثانية تمثلت في معاودة السفير السعودي نشر تغريدات لناشطين وسياسيين وإعلاميين لبنانيين وسعوديين تعبّر عن عمق الأزمة المستجدة وبعضها يطالب باعتذار صريح من قرداحي وإقالته، في حين برزت retweet قام بها لتغريدة لـ«SMM ARABIC»، نسبت لمصادر مطلعة «أن العاملين اللبنانيين في القنوات السعودية قد يواجهون الاستبعاد بسبب تصريحات قرداحي».
الإقالة
وفي حين نقلت قناة «أم تي في» اللبنانية عن مصدر سعودي «أن حلّ الأزمة الحادة التي تسبّبت بها تصريحات قرداحي تكون عبر إقالته من موقعه كمدخلٍ للخروج من الأزمة الديبلوماسية»، حاول لبنان الرسمي احتواء هذه «العاصفة» عبر تأكيد أن مواقف وزير الإعلام شخصية ولا تعبّر في أي حال عن الحكومة، مطلقاً إشاراتٍ أوحت بسوء تقدير لحجم الأزمة والمدى الذي يمكن أن تأخذه في ظل «الغضبة الخليجية».
فالرئيس ميقاتي، أوضح بعد زيارة قام بها صباح أمس للرئيس اللبناني ميشال عون «أننا تطرقنا إلى ما تم تداوله بالأمس عن المقابلة التي تم بثت أخيراً لمعالي وزير الإعلام، وكان تم تسجيلها قبل تشكيل الحكومة بأكثر من شهر.
وقد عبّر فخامة الرئيس، كما أكدتُ من ناحيتي، أن هذه المقابلة تعبّر عن رأي الوزير الشخصي، وليس عن رأي الحكومة ولا عن رأي فخامة الرئيس، ونحن نحرص على أطيب العلاقات مع الدول العربية».
وأضاف: «صحيح أننا ننأى بأنفسنا عن الصراعات ولكننا لا ننأى بأنفسنا عن أي موقف عربي متضامن مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج، وهذا الموقف ثابت. كما نتطلع إلى أطيب العلاقات وأحسنها. إن ما قاله معالي الوزير لن يؤثر على المسار العام، خصوصاً أن ثوابت الموقف اللبناني من العلاقات مع الدول العربية وردت في البيان الوزاري.
وقد أكد فخامة الرئيس على هذا الموضوع، وأنا هنا أشدد على موقفنا الواحد من أن هذا التصريح لا يمثل رأي الحكومة، بل نابع من رأي شخصي عبّر عنه الوزير قبل تشكيل الحكومة ولم نسمع به، وقد أذيعت المقابلة بالأمس. هذا هو المسار الذي قررناه لناحية أننا تواقون إلى أطيب العلاقات وأحسنها مع الدول العربية ونأمل أن يكون هذا الموضوع قد طوي».
قرداحي
ولم يساعد الوزير قرادحي في سكب مياه باردة على «الأزمة»، إذ رغم تأكيده خلال مشاركته في اجتماع المجلس الوطني للإعلام أن «مواقفي في تلك الحلقة التي صُورت قبل أسابيع من تعييني وزيراً هي آراء شخصية ولا تلزم الحكومة، وبما أنني وزير في الحكومة أنا ألتزم سياستها»، فهو صعّد لهجته بوجه المطالبات باستقالته، وقال: «عندما يطالبني أحد بالاستقالة، أقول إنني جزء من حكومة متكاملة ومتراصة ولا يمكنني اتخاذ قرار وحدي ولكن مع الحكومة مجتمعة.
وعلى الرغم من انني لست طامحاً وراء المناصب، إلا أنني أضع مصلحة لبنان فوق كل مصلحة ولا يجوز أن نظل في لبنان عرضة للابتزاز من أي أحد، لا من دول، ولا من سفراء ولا من أفراد وهم مَن يملون علينا مَن يجب أن يبقى في الحكومة ومَن يجب ألا يبقى. ألسنا دولة ذات سيادة؟ لماذا لا يحصل هذا إلا في لبنان؟».
واستغرب «أن المدافعين عن حرية التعبير والإعلام هم أول من بدأوا بالهجوم عليّ، في حين انهم منذ تعييني وزيراً حاولوا تصويري وكأنني جئت لقمع الإعلام»، ومؤكداً «أنا ضد الحروب العربية - العربية وما قلته عن اليمن هو بمثابة صداقة مع هذه الدول، واتهامي بمعاداة السعودية أمر مرفوض. اختلفتُ سابقاً بالرأي معهم وخسرت عملي في MBC، لكنني لست ناكراً للجميل».
ولاحقاً أصدر قرداحي بياناً قال فيه «لديّ الشجاعة الأدبية لأن أعتذر عن خطأ ارتكبته أثناء وجودي في الوزارة بصفة رسمية».
أزمة وهبة
وسبق للبنان أن تجاوز في مايو الماضي أزمة ديبلوماسية مع الرياض وكل دول الخليج على خلفية تصريحات لوزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال حينها شربل وهبة أدلى بها عبر قناة «الحرة» ووصفتها دول الخليج العربي بأنها «مشينة وعنصرية» ومسيئة لهذه الدول وشعوبها ولا تنسجم مع العلاقات التاريخية اللبنانية - الخليجية.
وأعقبت تصريحات وهبة غضبة خليجية تُرجمت استدعاءات لسفراء لبنان وإبلاغهم مذكرات احتجاج وطلب اعتذار رسمي، مع تلويح بإجراءات أخرى قد تتدحرج ما لم تتم معالجة الأزمة بما يلزم بعدما تعاطت دول الخليج مع ما حصل على أنه فِعل أقرب إلى «الاعتداء الديبلوماسي»، قبل أن يتم احتواء العاصفة بأن «استُقيل» وهبة من تصريف الأعمال وتولت حقيبته بالوكالة الوزيرة زينة عكر.
وعلى وهج «أزمة أكتوبر» تدافعت الأسئلة حول هل تحتمل حكومة ميقاتي الساعية بشق النفَس لترميم العلاقات المتصّدعة مع دول الخليج هذه «الانتكاسة» التي تعكس في عُمْقها أن في لبنان حكومة «ممْسوكة» من الائتلاف الحاكم (حزب الله وفريق الرئيس عون) وتعبّر عن توازناتٍ «أكدت المؤكد» لجهة أن بلاد الأرز «زحلت» منذ أمَد إلى المحور الإيراني.