منذ تفشِّي جائحة «كورونا» في أوائل العام 2020، يواصل الأطباء والعلماء حول العالم جهودهم البحثية الحثيثة وتعاونهم الأكاديمي المنسق من أجل فهم مرض «كوفيد- 19» وكبح مضاعفاته، سواء من خلال تطوير لقاحات وقائية ضده أو من خلال اكتشاف تقنيات علاجية فعالة للتصدي له.
وبالتزامن مع ظهور واستفحال الجائحة، تطلعت الأنظار والآمال إلى الخلايا الجذعية (stem cells). ومنذ منتصف العام 2020 وحتى الآن، نُشر عدد من الأبحاث العلمية التي سعت إلى استكشاف مدى امكانية الاستفادة من الخلايا الجذعية في إيجاد علاج ناجع لاستئصال مرض «كوفيد- 19» أو على الأقل تحييد خطورته.
لكن هذا التوجه كان ومازال يواجه موجات من الجدل ما بين مؤيدين له من جهة ومعارضين له من جهة أخرى، وهو الجدل العلمي-الأخلاقي الذي يحيط عادة بجميع الجوانب التطبيقية ذات الصلة بأبحاث تلك الخلايا التي تعرف أيضاً بـ«خلايا المنشأ».
لذا، نسلط أضواء في سياق التقرير التالي على أبحاث وتقنيات الخلايا الجذعية، ومدى الدور المحتمل الذي يمكن أن تسهم به في إيجاد علاج لمرض «كوفيد- 19» الذي مازال يعربد في العالم ناشراً الهلع والارتباك... نظرة تاريخية على مدار العقود الخمسة المنصرمة، تزايد دوران عجلة الاهتمام بأبحاث الخلايا الجذعية، حيث كانت البداية مع العالمين الكنديين إيرنست أرمسترونغ ماكولوتش وجيمس تيل، اللذَين تمكَّنا في العام 1960 من اكتشاف أول نوع من الخلايا الجذعية التي تقوم بتكوين خلايا الدم.
ومنذ ذلك الحين مر قطار أبحاث الخلايا الجذعية بمحطات رئيسية عدة، كان أهمها اكتشاف الخلايا الجذعية الوسيطة في العام 1991 على يد عالِم الأحياء الأميركي أرنولد كابلان الأستاذ بجامعة «كيس وستيرن ريزيرف».
وشهد صيف العام 1996 ضجة علمية عالمية حول خطوة عملاقة على طريق تقنيات الخلايا الجذعية، وهي الخطوة التي تمثلت في ميلاد النعجة دوللي الشهيرة التي كانت أول حيوان تم استنساخه بنجاح من خلية جسمية بالغة بفضل تقنية اعتمدت على استخدام الخلايا الجذعية الوسيطة. وتم استنساخ تلك النعجة في معهد روزلين في جامعة إدنبره الاسكتلندية.
الخلايا الجذعية... ما هي؟
الخلايا الجِذعية هي خلايا ذات طبيعة فريدة من نوعها؛ فهي خلايا المنشأ التي تتولَّد منها جميع الخلايا الأخرى ذات الوظائف المُتخصِّصة، وهي تُسهم في إعادة بناء أنسجة الجسم البشري المفقودة أو التالفة، كما يمكن توجيهها من خلال تقنيات خاصة لتقوم بتكوين أو ترميم نسيج أو عضو تالف في الجسم.
وفي ظلِّ تَوافر الظروف المُناسبة في الجسم أو مختبرياً، فإن الخلايا الجذعية تنقسم وتتكاثر لتشكل ما يسمى بـ«الخلايا الوليدة» التي إما أن تُصبح خلايا جِذعية جديدة (ذاتية التجديد) واما خلايا مُتخصِّصة (عبر التمايُز) ذات وظيفة مُتخصِّصة إضافية، مثل خلايا الدم أو خلايا الدماغ أو خلايا عضلة القلب أو الخلايا العظمية.
وبشكل عام، يمكن تقسيم الخلايا الجذعية إلى نوعين هما: الخلايا الجنينية التي تساعد على نمو الجنين، والخلايا الجذعية البالغة التي تُوجَد في الجسم بعد الولادة لترميم وتعويض الخلايا وتجديدها.
«كوفيد- 19»... و«عاصفة السيتوكين»
عندما يغزو فيروس كورونا المستجد الجسم، فإنه يتعرف على الخلايا عن طريق الارتباط بمُستقبِل يُعرف بـ«الإنزيم المحول للأنجيوتنسين» (ACE). ويوجد هذا المُستقبِل في خلايا عدد من أعضاء الجسم، وعلى رأسها خلايا الرئتين وخلايا الشعيرات الدموية.
وعادة، يتسبب ذلك الفيروس في إحداث التهاب عام ينتج عنه ارتفاع كبير في مستوى السيتوكينات التي هي بروتينات معينة تنسق استجابة الجسم ضد العدوى، وتسبب الالتهاب، وتفرزها خلايا معينة من أبرزها الخلايا المناعية.
وفي الحالات الحادة من مرض «كوفيد- 19»، يضطر جسم الشخص المصاب إلى إفراز السيتوكينات بغزارة كنوع من المقاومة، فيتسبب ذلك في إحداث حالة تعرف بـ«عاصفة السيتوكين»، وهي الحالة التي تتسب في إلحاق أذى شديداً بكثير من خلايا وأنسجة أعضاء الجسم. هذا الفهم لطبيعة المرض أثار الاهتمام بإمكانية الاستفادة من تقنيات الخلايا الجذعية في ابتكار علاجات مناعية من شأنها أن تكبح ذلك المرض تماما أو على الأقل تنزع خطورته من خلال منع حدوث عاصفة السيتوكين والمضاعفات المؤذية التي تنجم عنها.
أول تطبيق عملي
شهد شهر أبريل الماضي أول تطبيق عملي لتلك الإمكانية، وذلك عندما قام فريق بحثي في الصين بإجراء دراسة بحثية رائدة استخدموا خلالها الخلايا الجذعية في معالجة 7 مرضى مصابين بـ«كوفيد- 19» في مقابل 3 مرضى شاركوا في الدراسة كعينة محايدة ممثلة لـ«المجموعة الضابطة»؛ كان الهدف هو تقييم دور الخلايا الجذعية في تحسين نتائج علاج مرض «كوفيد- 19».
وبالإضافة إلى ذلك، عمل الباحثون على تقييم التغيرات التي طرأت على الوظائف المناعية لدى المرضى إلى جانب رصد منحنى الالتهابات في أجسامهم لمدة 14 يوماً بعد بدء المعالجة بالخلايا الجذعية.
وقال البروفيسور الصيني كون لين جين أستاذ علم الأدوية وعلم الأعصاب وأحد المشاركين في تلك الدراسة: «قمنا بمعالجة المرضى السبعة المصابين بالالتهاب الرئوي الناجم عن «كوفيد- 19» من خلال حقنهم بجرعات متفرقة من خلايا جذعية وسيطة. وكانت النتائج مثيرةً للاهتمام، حيث انحسرت الأعراض التنفسية لدى المرضى بشكل واضح دون ظهور أعراض جانبية، كما خرج بعض أولئك المرضى من المستشفى بعد 10 أيام من العلاج. هذا التحسُّن بدا واضحاً أيضاً في صور الأشعة المقطعية التي أظهرت أن علامات الالتهاب الرئوي تراجعت بشكل واضح، فضلاً عن تحسُّن نتائج التحاليل».
وعن قلة عدد المرضى الذين أُجريت عليهم تلك التجارب السريرية، قال البروفيسور جين: «صحيح أن هذ العدد محدود جداً، لكن يمكنني التأكيد على أن النتائج التي توصلنا إليها تبدو مبشِّرة وواعدة إلى حد كبير».
ملاحظات... وتحفظات
من زاوية انتقادية، قال البروفيسور أشوك شيتي - الأستاذ بمعهد الطب التجديدي بكلية الطب في جامعة تكساس إيه أند إم ولم يشارك في الدراسة: « ربما حدثت نتائج هذه الدراسة السريرية بسبب قدرة الخلايا الجذعية على تثبيط إفراز السيتوكينات. لكن في المقابل، تفرز هذه الخلايا نفسها سيتوكينات مضادة تضاد هذا الالتهاب وتقلل من أضراره، كما تساعد هذه الخلايا أيضاً في إعادة تكوين الخلايا التالفة. لذا، ينبغي التحقق من هذه النتائج من خلال دراسة هذا التأثير على أعداد أكبر من المرضى وعلى مختلف الفئات العمرية وعلى أشخاص ذوي خلفيات مرضية متنوعة. وإذا ثبتت فاعلية وأمان هذا النوع من المعالجة، فحينها سيمكننا أن نعتبرها صالحة للاستخدام كعلاج على المستوى التجاري العام.
وأضاف: «هناك نقطة مهمة أخرى، وهي معايير اختيار المرضى للمشاركة في المجموعة التي حصلت على الخلايا الجذعية كعلاج، وكذلك في المجموعة الضابطة. فالمرضى في المجموعة الضابطة كن جميعاً سيدات، وكان اثنتان منهن فوق سن السبعين، وكنَّ جميعاً يعانين من حالات شديدة من المرض، وهو ما يطرح تساؤلات عن وجود تحيُّزات في اختيار المرضى للمشاركة في المجموعتين، وهذا أمر قد يلقي بظلال من الشك على النتائج».
دراسات... بالعشرات
لكن هذه الدراسة الرائدة ليست الوحيدة التي استخدمت تقنية الخلايا الجذعية في معالجة مرضى «كوفيد- 19». ففي شهر مايو الفائت نشرت دورية «ستيم سيل ريسيرش آند ثيرابي» دراسة محدودة أجراها باحثون صينيون واستخدموا فيها خلايا جذعية مستخلصة من الحبل السري لمعالجة مريض أصيب بالالتهاب الرئوي ناجم عن مرض «كوفيد- 19».
ووفقاً لنتائج تلك الدراسة، فإن وظائف الرئة وأعراض المرض الأخرى تحسنت تحسُّناً واضحاً بعد يومين فقط من نقل هذه الخلايا إليه، كما زادت أعداد خلاياه الليمفاوية المناعية بأنواعها المختلفة، وهي الخلايا التي تنخفض أعدادها بشكل كبير لدى مرضى «كوفيد- 19» مع تدهور إصاباتهم.
كما نشرت دورية «ستيم سيل آند ديفيلوبمنت» دراسة أميركية لم يستخدم فيها الباحثون الخلايا الجذعية بشكل مباشر، لكنهم استخدموا أحد منتجاتها المعروف باسم «الحويصلات الخارجية» (Exosomes)، وهي حويصلات تفرزها الخلايا الجذعية وتحتوي على جزء من الحمض النووي لتلك الخلايا وتمتصها الخلايا البالغة المجاورة لها لتؤثر على وظائفها وسلوكها.
وإذ شملت تلك الدراسة 24 مريضاً، فإن المعالجة بتلك الحويصلات أدت إلى تعافي 17 مريضاً (أي بنسبة 71 في المئة) فضلاً عن تقليص شدة أعراضهم بشكل ملموس وواضح، وهو ما يبشر - وفقاً للباحثين - بقدرة واعدة لهذه الحويصلات على معالجة مرض «كوفيد- 19».
ووفقاً لتقديرات، فإن هناك حالياً أكثر من 70 دراسة بحثية أخرى حول استخدام تقنيات الخلايا الجذعية في معالجة «كوفيد- 19»، لكن تلك الدراسات مازالت جارية ولم يتم الكشف عن تفاصيلها بعد، وهذا العدد الكبير يعكس الاهتمام الواضح بإمكانية استخدام تلك الخلايا في التصدي لهذا المرض.
تحذيرات من الانتهازية
لكن البروفيسور جين وآخرون مختصون في هذا المجال يتفقون على ضرورة توخي الحذر وعدم الإفراط في التفاؤل إزاء هذه النتائج الأولية التي قد تبدو مبشرة لكنها قد لا تؤدي إلى الأمل المنشود، مثلما حدث مع دواء «الكلوروكوين» الذي تهافت كثيرون على شرائه وتعاطيه لاعتقادهم أنه علاج ناجع لمرض «كوفيد- 19» ثم اتضح لاحقاً أنه ليس كذلك.
وينبَّه أولئك العلماء والباحثون إلى أن بعض المراكز التي تزعم المعالجة بالخلايا الجذعية باعت منتجات كثيرة غير مرخصة باعتبارها علاجات لأمراض عدة دون أن يدعم مزاعمها دليل علمي مقبول، وهناك احتمال أن تستغل مثل تلك المراكز فرصة جائحة فيروس كورونا الراهنة لتحقيق مكاسب من خلال تسويق علاجات لمرض «كوفيد- 19» تعتمد على الخلايا الجذعية تحت زعم أنها تقي ضد ذلك المرض أو تطرده من الجسم.
ومحذراً من عواقب التسرُّع، لخص البروفيسور جين تلك التحذيرات قائلاً: «بالإضافة إلى عنصر فاعلية أي علاج بالخلايا الجذعية، فإن ضمان أمانه مهمٌّ للغاية. لذا، من الضروري استكمال جميع الجوانب قبل طرح أي علاج جديد يعتمد على تلك الخلايا».
والواقع أن الانتقادات والتحفظات التي تحيط باستخدام الخلايا الجذعية في التصدي لجائحة فيروس كورونا الراهنة. ففي خضم حال الهلع العالمية الراهنة، من المهم جداً التمييز بين العلاجات التي ثبتت فاعليتها وتلك التي لم تثبت فاعليتها بعد، والتمييز بين الفرص المتاحة لتجربة معالجة جديد بشكل علمي ومنهجي وبين الانتهازية التي يمكن أن تستغل هذا الحال من أجل تحقيق مكاسب سريعة.
ولحسن الحظ، فإن هناك كيانات علمية وبحثية معتمدة حول العالم تتصدى لهذه المحاولات الانتهازية، ومن أبرزها: «الجمعية الدولية للمعالجة الخلوية والجينية»، و«الجمعية الدولية لأبحاث الخلايا الجذعية»، و«التحالف من أجل الطب التجديدي».
وتتعاون تلك الكيانات في ما بينها من أجل التصدي لتلك الممارسات الانتهازية وإجهاضها، لكن مازال هناك حاجة إلى بذل وتنسيق مزيد من الجهود التنظيمية في سبيل تقنين استخدام تقنيات الخلايا الجذعية في الأغراض العلاجية المختلفة، وعلى رأسها معالجة مرض «كوفيد- 19».