لم ترض زيارة وزير الخارجية انتوني بلينكن الى كل من القدس ورام الله، أياً من الحزبين الأميركيين، اذ اعتبر الديموقراطيون أنها زيارة شكلية وتنقصها الجدية والدفع باتجاه تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في وقت رأى الجمهوريون أن بلينكن قدم مكافأة لحركة «حماس» بالتعهد بإعادة إعمار في قطاع غزة ورصد أموال أميركية لهذا الهدف، وتراجع عن كل «الانجازات» التي كان حققها الرئيس السابق دونالد ترامب في دعمه إسرائيل.

في الكونغرس، ينقسم الديموقراطيون الى قسمين، وزيارة الوزير الأميركي لم ترض أياً منهما.

القسم الأكبر هو «الوسطي»، الذي يؤيد السعي للتوصل الى إقامة دولة فلسطينية الى جانب إسرائيل.

لكن تصريحات بلينكن، أثناء مؤتمره الصحافي في القدس، أول من أمس، لم تشي بأن لدى ادارة الرئيس جو بايدن خطة جدية لدفع تسوية الدولتين قدماً.

ويرى هؤلاء الديموقراطيون أن بايدن مازال ملتزماً «الدرس» الذي تعلمه من الرئيس السابق باراك أوباما، الذي أنفق الكثير من الوقت والجهد للتوصل الى تسوية، من دون أن ينجح في ذلك، وهو ما دفعه لإعلان أنه «لا يمكن للولايات المتحدة أن ترغب في السلام أكثر من الطرفين المعنيين»، وأن واشنطن «ستكون مستعدة لرعاية أي تسوية سلمية في حال قرر الطرفان المضي قدما بالتسوية وطلب المساعدة الأميركية».

وكان بلينكن اعتبر أن هدف زيارته هو التركيز على «الاحتياجات الملحة الموجودة في غزة، على أساس إنساني»، وكذلك «الاحتياجات الملحة لإعادة البناء وإعادة الإعمار، ثم البحث في إجراءات إزالة التوتر من جانب كل من الإسرائيليين والفلسطينيين، ومحاولة إزالة أو تقليل بعض المحفزات المحتملة لدورة جديدة من العنف».

لكن هذه السياسة لا تزال بعيدة عن موضوع التسوية، حسب غالبية الديموقراطيين في الكونغرس.

على أن بلينكن يرى أن ما يسعى للقيام به هو خطوة على طريق العودة لمفاوضات السلام، كما في قوله إنه في حال نجاحه في تقليص التوتر، «وسيستغرق ذلك بعض الوقت»، قد ينجم عن ذلك «بيئة أفضل تفتح المجال أمام إمكانية استئناف الجهود لتحقيق حل الدولتين»، حسب الوزير الأميركي، الذي تابع القول إن حل الدولتين مازال «السبيل الوحيد إلى التأكيد على مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية، وبالطبع لمنح الفلسطينيين الدولة التي يحق لهم اقامتها».

وتوفير الشروط الملائمة للعودة لمحادثات السلام، حسب بلينكن، يتضمن ألّا يتخذ «أي من الطرفين خطوات قد تفضي الى إثارة العنف أو، بمرور الوقت، تقوّض احتمالات السعي لحل الدولتين»، وهو ما يعني أن ادارة بايدن، على حد قول وزير خارجيتها، تعارض «النشاط الاستيطاني (الإسرائيلي)، وعمليات هدم (منازل الفلسطينيين)، والإخلاء، والتحريض على العنف، ويشمل كذلك تقديم الأموال للإرهابيين».

وختم بلينكن بالقول: «أعتقد أن كل هذه الاستفزازات يمكنها أن تكون بمثابة محفزات تعيد التوتر، وربما العنف، ومن المؤكد أنها تقوض احتمالات تحقيق حل دولتين، وهذا شيء كنا واضحين جداً في شأنه في محادثاتنا مع الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء».

والى اعداده الأرضية المطلوبة للعودة الى مفاوضات السلام، قام بلينكن بالعودة الى غالبية الاجراءات التي كانت متبعة في زمن أوباما، فوزارة الخارجية، منذ عقود وفي عهد الادارات المتعاقبة الديموقراطية منها والجمهورية، رفضت الاعتراف بأي سيادة للإسرائيليين في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وحافظت على تصنيف هذه كأراض فلسطينية تحتلها إسرائيل.

كذلك، أعاد العلاقة الأميركية مع السلطة الفلسطينية، وأعلن نية واشنطن فتح قنصلية تخدم الفلسطينيين في القدس الشرقية، وهو ما يوازي نقل ترامب، السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس.

ولا ترى إدارة بايدن ضرورة في إعادة السفارة الأميركية من القدس الى تل أبيب، إذ إن هذه السفارة هي في القدس الغربية، التي ستكون من حصة إسرائيل في أي تسوية سلمية، فيما القدس الشرقية ستكون عاصمة الدولة الفلسطينية المزمع اقامتها، وفتح واشنطن قنصلية تخدم الفلسطينيين فيها هو بمثابة اعتراف ضمني أميركي بأن الشطر الشرقي من المدينة - أو على الأقل معظمه بحسب ما سينجم عن مفاوضات السلام - سيكون فلسطينياً.

اجراءات بلينكن، لم تعجب «الجناح التقدمي» في الحزب الديموقراطي، الذي لا يتمسك بحل الدولتين، بل يرى أن الحل الأنسب هو دولة ثنائية القومية يتساوى فيها الإسرائيليون والفلسطينيون بالحقوق والواجبات، على طراز الولايات المتحدة، حيث تتمتع كل الأعراق بحقوق متساوية في المواطنية.

لكن هذا الحل يصطدم بأن هوية الدولة الثنائية القومية لن تكون يهودية، ولا عربية، وهو ما يلقى رفضاً من الغالبية لدى الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني.

أما أكثر من ثار ضد زيارة بلينكن، فهم الجمهوريون في الكونغرس وفي وسائل إعلامهم، إذ راحوا يصورون أن الوزير الأميركي، الذي أعلن تبرعات بقيمة 80 مليون دولار لمساعدة الفلسطينيين، منها خمسة ملايين مخصصة لغزة، يكافئ «حماس» على افتعالها الحرب ضد إسرائيل، وأن هذا النوع من السياسة التي تؤدي الى مساعدات مالية أميركية قد تقنع الحركة بأن لا ثمن اقتصادي لحروبها.

لكن مبلغ خمسة ملايين دولار زهيد، بل يكاد يكون رمزياً، بالنسبة لكمية الأموال المطلوبة لإعادة إعمار القطاع الفلسطيني الجنوبي، وهو ما يعني أنه ليست الأموال نفسها هي التي تزعج غالبية الجمهوريين، بل عودة إدارة بايدن عن سياسات ترامب، والتي قضت بفرض شبه حصار أميركي على كل الفلسطينيين، بما فيها السلطة التي يعترف بها العالم كممثل للفلسطينيين.

وسبق لبايدن أن أعاد تسديد مساهمة الولايات المتحدة في تمويل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وهي الأموال التي كان حجبها ترامب بسبب اعتقاد إدارته أن الوكالة تحتفظ بأرشيف يحوي سجلات كل فلسطيني أراضي 1948، بما في ذلك من ينحدرون منهم.

كما تشكل إعادة بايدن العلاقة مع السلطة نهاية الاستراتيجية التي وضعها ترامب في مواجهة الفلسطينيين، والقائلة بممارسة ضغوط كبيرة عليهم، وفي الوقت نفسه تقديم محفزات كبيرة لحضهم على اختيار «صفقة القرن» التي كان أعلن عنها الرئيس الجمهوري السابق ورفضها الفلسطينيون لأنها خرجت عن «مبادئ حل الدولتين» وعن مرجعيات السلام ومقررات مؤتمراته ومفاوضاته الماضية.