تضجّ الكواليس السياسية والديبلوماسية في بيروت بتحذيراتٍ من «سوء تقدير» الرسالة التي عبّر عنها قرار المملكة العربية السعودية بمنْع دخول الفواكه والخضار اللبنانية الى أراضيها أو العبور من خلالها بعد تحوّلها في الأعوام الأخيرة «ناقِلة مخدّرات» من ضمن سياقٍ مُمَنْهَج رفعت الرياض بوجهه عنوان «أمننا خط أحمر».

وفيما كانت الأجواء التي تسود لدى دوائر سياسية بعيدة عن الاصطفافاتِ الداخلية كما في أوساط ديبلوماسية في «بلاد الأرز» تشي بأنّ هذا الملف المستجدّ ينبغي التعاطي معه لبنانياً أبعد من كونه مجرّد «حظْر موْضعي» بل «أول غيث» مسارٍ يمكن أن يكون آخِره مفتوحاً على «مقاطعة سياسية»، وإن من دون قطْع معلَن للعلاقات، ما لم تتخذ بيروت إجراءات تُحْدِث الصدمة الإيجابية المطلوبة التي ترْصدها أيضاً دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى التي أيّدت قرار المملكة وحيثياته، أطلق لبنان الرسمي أمس مساراً متعدد الاتجاه لمحاولة احتواء هذه الأزمة عبّرت عنه خلاصات الاجتماع الذي عُقد في القصر الجمهوري وترأسه الرئيس ميشال عون وحضره رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب والوزراء المعنيون بهذا الملف الأمني - الاقتصادي - الديبلوماسي وقادة الأجهزة وممثلون للقطاع الزراعي والمصدّرين.

فقد شدّد الاجتماع «على حرص لبنان على متانة العلاقات الأخوية مع السعودية، وإدانة كل ما من شأنه المساس بأمنها الاجتماعي أو بسلامة الشعب الشقيق، ولاسيما تهريب المواد الممنوعة والمخدّرة، خصوصا أن لبنان يرفض رفضاً قاطعاً أن تكون مرافقه، طريقاً أو معبراً لمثل هذه الجرائم المشينة».

ولفت البيان الذي صدر عن الاجتماع إلى «الطلب إلى المدعي العام التمييزي استكمال ومتابعة ما يلزم من تحقيقات لكشف كل ما يتصل بعملية تهريب المواد المخدرة في شحنات الخضار والفاكهة التي دخلت الأراضي اللبنانية، والجهات التي تقف وراء تصديرها إلى المملكة العربية السعودية».

كما أكد ضرورة «إنزال، وفقاً للقوانين والأنظمة المرعية الاجراء، أشد العقوبات بالفاعلين والمخطّطين والمنفّذين والمقصّرين على أن يصار إلى إطلاع المسؤولين السعوديين عن النتائج في أسرع وقت»، موضحاً أنه «تم الطلب الى القوى العسكرية والامنية والجمارك والإدارات المعنية التشدد وعدم التهاون إطلاقاً في الاجراءات الآيلة، لمنع التهريب على أنواعه من الحدود اللبنانية والى أي جهة كانت، لاسيما منها الشحنات المرسلة الى دول الخليج، والتأكد من خلوها من أي بضائع ممنوعة».

وأوصى المجتمعون بـ «الطلب إلى وزير المال متابعة تنفيذ مرسوم 6748 تاريخ 30 /7 /2020 المتعلق بالنظام الإلزامي لمعاينة ومراقبة الحاويات والبضائع والمركبات في المرافق الحدودية اللبنانية، لاسيما إطلاق مناقصة لإنشاء هذا النظام تحت الأوضاع الجمركية كافة بعد أن تم إعداد دفاتر الشروط اللازمة». كما أوصوا بـ «تكليف وزير الداخلية والبلديات التواصل والتنسيق مع السلطات المعنية في المملكة العربية السعودية لمتابعة البحث في الإجراءات الكفيلة بكشف الفاعلين ومنع تكرار مثل هذه الممارسات المدانة».

كذلك قالوا بـ «تكليف وزراء المال والاقتصاد والصناعة والزراعة مراجعة الآليات والإجراءات التي تتبع في عملية التجارة الخارجية واقتراح التعديلات اللازمة على النصوص القانونية المعمول بها حالياً، لضمانة حسن وسلامة الصادرات اللبنانية بالتنسيق مع اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة. بالإضافة إلى تكليف وزير المال وضع تقرير مفصّل بالحاجات والمستلزمات والتجهيزات اللازمة لتحسين آداء وجهوزية المديرية العامة للجمارك».

وتمنى المجتمعون «من المملكة العربية السعودية إعادة النظر في قرار منع دخول المنتجات الزراعة اللبنانية الى السعودية او عبور اراضيها»، مشددين على أن «لبنان كان وسيبقى الشقيق الحريص على سلامة أشقائه العرب».

وكان عون أكد في الاجتماع أن «لبنان حريص على عدم تعريض سلامة أي دولة، خصوصاً الدول العربية وأبناءها إلى أي خطر»، واستوضح المعنيين عن «أسباب التأخير في شراء آلات السكانر لوضعها على المعابر على الرغم من القرار المتخذ منذ يوليو 2020 وصدور مرسوم بذلك»، داعياً «لإتمام عملية الشراء في أسرع وقت»، وطالباً من «الأجهزة الأمنية التشدد في مكافحة عمليات التهريب ومَن يقف وراءها».

وتَرافَقَ الاجتماع مع كشْف وسائل إعلام لبنانية عن أن شعبة مكافحة المخدرات في الجمارك أوقفت شخصين من آل سليمان على صلة بشحنة الرمان إلى السعودية والتي احتوت على حبوب الكبتاغون، وأن الشحنة تمّ التلاعب بشهادة المنشأ الخاصة بها، بعدما استوردتها إحدى الشركات الوهمية من سورية (دخلت براً عبر البقاع ونُقلت في شاحنات مبرّدة الى مرفأ بيروت) قبل أن يجري في لبنان تزوير شهادة المنشأ ليصار إلى إعطائها شهادة صُدّرت بموجبها على أنها منتج لبناني وذلك لإخفاء مصدرها الحقيقي، وان اجتماع بعبدا شهد أجواء مشحونة وتقاذفاً للمسؤوليات بين وزارتي الزراعة والاقتصاد حول الجهة التي أصدرت الشهادة. ووفق التقارير الإعلامية فإن الشركة الوهمية حائزة على إفادة موافقة من وزارة الزراعة وتعمل في التهريب.

وأبعد من هذه الأزمة المستجدّة مع السعودية، لم تَعُد الأوساط الديبلوماسية تكتم أن «جوهرَ» ما ظهّرتْه يكمن في ما تعبّر عنه من انكشافِ مفاعيل «التعديل الجيني» المتدرّج في دور لبنان ووضعيته - بقوةِ «تدجين» الموازين والوقائع السياسية ثم بالانهيار المالي - هو الذي يبدو وكأنه انتقل من جسر الوصْل والتواصل بين الشرق والغرب و«سويسرا المنطقة» إلى «فنزويلا الشرق» و«كولومبياه» كممرٍّ لمخدراتٍ «تغزو» مجتمعات ودولاً ترتبط معها بيروت بمصالح تاريخية اقتصادية وسياسية، على وقع تفاقُم مَظاهر «انعزاله» عن نظام المصلحة العربية والنظام العالمي بفعل إمعان المنظومة الحاكمة إما في اقتياده إلى فم صراعات المنطقة وإما في «الاستثمار» بالانهيار الشامل لحساباتٍ سُلْطوية.

ومن هنا كانت هذه الأوساط ترصد باهتمام بالغ ما سيفعله لبنان الرسمي لمنْع تدحْرج الأزمة، وهو ما يتطلّب إجراءات ملموسة يُخشى أن تكون «أكبر» من قدرة السلطات المعنية على وضْع مجمل ملف الحدود البرية والبحرية والجوية على الطاولة وإيجاد معالجات جذرية لموضوع التهريب والتفلّت الرقابي، الذي كانت «بلاد الأرز» دفعت ثمنه «من اللحم الحيّ» لأبنائها بتفجير مرفأ العاصمة (4 أغسطس الماضي) بمئات أطنان نيترات الأمونيوم التي لم يُفَكّ بعد لغز دخولها وتخزينها لأعوام في المرفأ، وها هي تتكبّد اليوم أكلافه الاقتصادية والمالية التي كانت حتى الأمس القريب تتمحور حول تهريب السلع المدعومة إلى سورية، قبل أن يتحوّل «صاعقاً» في قلب علاقاته مع السعودية التي أنهتْ «التسامح» مع لبنان بإزاء شحنات المخدرات إلى أراضيها.

واعتبرتْ الأوساط نفسها أن تقديم أجوبة حاسمة حول كيفية دخول شحنة الرمان من سورية الى البقاع وصولاً الى السعودية عبر مرفأ بيروت قد يشكّل أوّل إشارةٍ الى جدية لبنان في التعاطي مع هذه القضية ونيّته التصدّي لتحويله وحدوده «منصة لتصدير المخدرات»، رغم الاقتناع بصعوبة الحلّ المتكامل لملف الحدود وخصوصاً البرية في ضوء عدم إمكان القفز فوق الأبعاد «الاستراتيجية» التي يُعْطيها «حزب الله» لهذا الملف الذي لطالما جعله من العناوين «المُبْعَدة» عن طاولة الحكومة كما ملف الحدود البحرية مع اسرائيل.

وعلى وقع مؤشراتٍ يُخشى أن تفاقِم تَصَدُّع العلاقات السعودية - اللبنانية وتمثّلتْ في وضع وسائل إعلام محسوبة على قوى «8 مارس» (حزب الله وحلفاؤه) قرار الرياض في إطار «محاصرة لبنان والحرب عليه لإخضاعه» سياسياً، أتى اجتماع القصر ساعياً لتوجيه رسائل إيجابية الى السعودية التي سيجري رصْد كيفية تلقفها الخطوات اللبنانية.

وفي موازاة ذلك، كان البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي يَمْضي في تظهير التمايز مع فريق عون والذي كان برز بوضوح مع انتقاد رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل رأس الكنيسة يوم السبت على خلفية موقفه من الأزمة الحكومية و«مبدأ» الثلث المعطّل، ثم الانتقادات القاسية التي وجّهها الراعي (الأحد) لأداء القاضية غادة عون بتمرّدها على كف يدها عن ملفات مالية واقتحامها مقرّ شركة لاستيراد الأموال والصيرفة في محلّة عوكر بمؤازرة مؤيدين للتيار، وهو ما ردّ عليه مناصرو الأخير عبر مواقع التواصل بحملة على البطريرك تحت عنوان «تجار الهيكل» (شملت أيضاً المطران الياس عودة).

وقبيل اجتماع بعبدا حرص الراعي على تأكيد «ان موضوع التهريب الذي يشوّه وجه لبنان كان من المواضيع التي طُرحت خلال اللقاء مع الرئيس عون، ولا سيما أن لبنان أصبح معبراً للمخدرات ولتهريب حبوب الكبتاغون الى الخليج عبر السعودية التي أقفلت الباب بوجهنا». وقال: «نعلم ان 80 في المئة من منتجاتنا الزراعية تصدّر الى الخليج، وسيعقد اجتماع في قصر بعبدا حول هذا الموضوع، ولكن لا يمكننا تحمل الخسارة، فأجهزة الدولة مسؤولة، ولكن أين هي أجهزة الرقابة؟ لا يمكن أن يشكل لبنان مركزاً للتهريب وتبقى حدوده الشرقية والشمالية مفتوحة دخولاً وخروجاً لذلك. فلا يمكن للبنان أن يكون معبرا، كما رأينا بالأمس الى السعودية وبعدها الى اليونان. فليس هذا هو وجهه الحضاري»، معتبراً «الموضوع اليوم، هو حصول التهريب عبر لبنان، وأجهزة الرقابة «مغمضة عيونها» أو أنها غير مدركة، او ان هناك مَن يغطي هذا الامر، وهذا موضوع آخر، وغير مسموح».

وأكد أنه «تم البحث خلال اللقاء بموضوع القضاء واستقلاليته، وضرورة عدم حصول أي فراغ في هذا السلك، وإجراء تشكيلات قضائية». وقال: «شددنا على كرامة القضاء وكرامة القاضي ونزاهته وحريته، مع عدم انتماء هذا القاضي إلى أي فئة، وضرورة عدم التدخل بشؤون القضاة، فيستطيع عند ذلك القاضي العمل بحسب ضميره والعدالة».

ودعا لضرورة «أن تكون هناك حلول قريبة للأزمة الحكومية، خصوصا أن هناك تحركا على أكثر من صعيد، فرئيس الحكومة المكلف (سعد الحريري) زار أخيراً الفاتيكان، وقبلها روسيا، وهذا التحرك يدل على أن هناك متابعة لهذا الموضوع».

ورداً على سؤال، أكد البطريرك ان «الفاتيكان وبكركي لا يهاجمان أحداً، بل هم يهاجموننا».

وعلى وهج هذه العناوين الصاخبة، لم يكن عابراً «الفيتو» المبكر الذي رفعتْه المجر من لبنان على المسار الذي يتلمّس طريقه في الاتحاد الاوروبي لإنشاء نظام عقوبات خاص بلبنان (يحتاج لإجماع اوروبي) يتم بموجبه إدراج شخصيات على لائحة العقوبات على خلفية عرقلة تأليف الحكومة، وهو المسار الذي تضغط فرنسا باتجاهه محاولةً إعطاء قوة دفْع أوروبية لتهديداتها المتكررة بمعاقبة المسؤولين عن تمادي المأزق الحكومي وإفشال مبادرتها للحلّ.

واختار وزير الخارجية المجري بيتر سيارتو نهاية لقاء عقده مع رئيس «التيار الحر» جبران باسيل (في مقر التيار)، الذي يُعتبر من «المرشحين» لشموله بعقوبات أوروبية (بعد الأميركية)، ليعلن أنه تحدث مع باسيل عن العقوبات التي يجري الحديث عنها في الاتحاد الأوروبي، وقال: «اتفقنا أن ليس من مصلحة الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على أفراد منتخَبين، ولن نقبل بفرض عقوبات على اكبر حزب سياسي مسيحي في لبنان. ومن الظلم العقوبات التي تركز على هكذا احزاب».

بدوره، قال باسيل: «يمكن لأوروبا ان تساعدنا باتخاذ إجراءات ضد أشخاص أو كيانات أساءت استعمال المال العام في لبنان متسلحة باتفافية الامم المتحدة لمكافحة الفساد وغيرها. ويمكن حجز الأموال المهربة وملاحقة القائمين بعمليات فساد وتبييض أموال».

وأضاف: «الحكومة مطلوبة وضرورية وعاجلة لاجراء الاصلاحات وليس لمنْعها، والعقوبات مرغوبة اذا قامت على أسس قانونية واصلاحية ثابتة لا على أسس سياسية غير مبررة».

وأكد «اننا منفتحون على الغرب، وأوروبا بالنسبة الينا هي بوابة الغرب واي انقطاع في العلاقة هو أمر سيئ للجميع»، معتبراً ان «سياسات العقوبات ستكون مضرة جداً، وستؤدي لإبعاد لبنان عن أوروبا والغرب وستأخذنا أكثر نحو الشرق».