هناك الكلام وهناك الأفعال. لا ينفع الكلام، مهما كان منمّقاً، خصوصاً حيث يجب أن تكون هناك أفعال. من الأفضل لمن لا يستطيع أن يفعل ألّا يتكلّم وأن يتوقّف عن العنتريات من نوع تلك التي كان يطلقها ميشال عون من قصر بعبدا في العامين 1989 و1990 عندما كان يقول إنّه «سيكسّر رأس حافظ الأسد» وذلك كي يحظى بإعجاب صدّام حسين، الرئيس العراقي وقتذاك.

تكمن مشكلة العهد في لبنان وهو «عهد حزب الله» الذي على رأسه ميشال عون وصهره جبران باسيل في أنّه عهد لا يجيد سوى الكلام. كلام كثير لا علاقة له بالواقع وما يدور على أرض لبنان وما يجري في المنطقة والعالم. فمن هو حريص فعلاً على العلاقة مع المملكة العربيّة السعوديّة ودول الخليج العربي لا يغطي نشاط الحوثيين في لبنان. هل يعرف رئيس الجمهوريّة أن فضائية الحوثيين (المسيرة) الذين يسمّون أنفسهم «جماعة أنصار الله» تبث من بيروت وليس من مكان آخر؟

من هو حريص على علاقة لبنان بالسعودية لا يتحوّل إلى ناطق باسم «الجمهورية الإسلاميّة» في مجلس جامعة الدول العربيّة عندما كان جبران باسيل وزيراً للخارجية!

ليس تهريب المخدرات إلى السعوديّة سوى جانب من المشكلة التي يمرّ فيها لبنان ومن الانهيار اللبناني الذي ليس ما يشير إلى وجود قعر له. هناك بكل بساطة غياب القيادة السياسيّة في لبنان لا أكثر ولا أقلّ. من المضحك أن يكون هناك رئيس حكومة مستقيلة من نوع حسّان دياب «تفاجأ» بقرار السعودية وقف استيراد المنتوجات الزراعية من لبنان. من يفترض به أن يتفاجأ هو السعوديّة نفسها التي كانت تعتقد، ربّما، أن ثمّة حدوداً للأذى الذي يمكن أن يتسبّب به لبنان لمحيطه العربي.

ستعقد اجتماعات كثيرة من نوع ذلك الذي انعقد أمس في قصر بعبدا. المهمّ بالنسبة إلى رئيس الجمهوريّة انعقاد مثل هذا النوع من الاجتماعات كي يقول إنّه لا يزال رئيساً. لا يدري عون وباسيل أن العالم يعرف وأنّ العرب يعرفون. أهمّ ما يعرفه العرب والعالم أن لبنان تحوّل إلى تابع لإيران. لم يخفِ مستشار لرئيس الجمهورية يدعى بيار رفّول ذلك في حديث تلفزيوني مسجّل أدلى به قبل فترة قصيرة. قال رفّول وقتذاك بالصوت والصورة ما معناه أن لبنان في «جبهة الممانعة».

ليس في استطاعة «عهد حزب الله» منع التهريب من لبنان. هذا عهد لم يأخذ يوماً علماً بخطورة وجود «حزب الله» في سورية كشريك في الحرب على الشعب السوري. هذا عهد لا يستطيع استيعاب معنى إزالة الحدود بين لبنان وسورية لأغراض مرتبطة بالتهريب وغير التهريب. هذا عهد لا يعرف معنى أن تكون سيادة لبنان مجرّد وجهة نظر وأن يكون الرابط المذهبي فوق الرابط الوطني الذي يجمع بين اللبنانيين. يمكن تفسير ذلك بمتاجرة العهد بشعار حقوق المسيحيين بدل أن يكون رئيس الجمهورية رئيساً لجميع اللبنانيين وأن يسهّل تشكيل حكومة اختصاصيين.

يظل الكلام كلاماً. لا ينفع في الوقت الحاضر سوى الذهاب إلى حيث أساس المشكلة أي سلاح «حزب الله» الذي ليس سوى سلاح مذهبي في خدمة المشروع الإيراني في المنطقة.

لعلّ أفضل من شرح ذلك البيان الصادر عن «لقاء سيّدة الجبل» في ذكرى مرور 16 عاماً على خروج الجيش السوري من لبنان. مما جاء في البيان «الذي شارك في صياغته لبنانيون من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق، لبنانيون بعيدون كلّ البعد عن الطائفيّة ومشروع حلف الأقلّيات:

اليوم، وبعد ستة عشر عاماً، أُلغيت الحدود اللبنانية - السورية كما أُلغيت الحدود السورية - العراقية والحدود العراقية - الإيرانية، حتى بات لبنان جزءاً لا يتجزّأ من كيانٍ أمني أيديولوجي سياسي عسكري تحكمه إيران من طهران إلى بيروت. في هذه البلدان جيوش وطنية إلى جانبها ميليشيات غير شرعية تتحكّم بالقرار. وما حصل أخيراً في فضيحة تهريب المخدرات إلى المملكة العربية السعودية هو دليل على عملية محاولة إذابة الكيان اللبناني في هذا المجال «المشرقي» الذي كثُر الحديث عنه أخيراً، وذلك عبر سلخ لبنان عن محيطه العربي.

وما يحصل اليوم يتجاوز الكلام السياسي المحلّي الذي يدور في شأن تشكيل الحكومة أو عدم تشكيلها، وأداء هذا الزعيم أو ذاك وحصول انتخاباتٍ نيابية مبكرة أو في موعدها. المطلوب هو استعادة استقلال لبنان، وهذه المرة من الاحتلال الإيراني. وهذا الاستقلال يجب أن يُبنى على ثوابت واضحة، من خلال إعادة تكوين وحدة اللبنانيين والتمسّك بوثيقة الوفاق الوطني التي أكّدت على نهائية الكيان اللبناني وعلى عروبة لبنان وانتمائه إلى محيطه العربي.

إن استعادة أموال اللبنانيين من المصارف وإعادة إطلاق الحركة الاقتصادية وإعادة بناء الدولة في لبنان يبدأ بانتزاع الاستقلال وإعادة تكوين هذه الوحدة الداخلية. وفي هذا الإطار، يعمل لقاء سيدة الجبل وسيستمر في هذا العمل مع جميع أصحاب النيّات الصادقة لدعم مبادرة بكركي التي طالبت بتحرير الشرعية اللبنانية وحياد لبنان وبمؤتمر دولي لتنفيذ الطائف والدستور وقرارات الشرعية الدولية 1559، 1680، 1701».

هذا هو الكلام الذي يفترض أن يقال هذه الأيّام. البقية مجرّد هروب من الواقع ومن الاعتراف بأنّ «عهد حزب الله» لا يستطيع أكثر من إغراق لبنان في مزيد من الأزمات، بما في ذلك تكريس عزله عن محيطه العربي.