بغض النظر عن طبيعة الهجوم الذي تعرّضت له المنشأة الإيرانية الرئيسية لتخصيب اليورانيوم «ناتانز» ومدى الأضرار التي تسبّب بها، يظلّ على إيران الإجابة عن السؤال الجديد – القديم: هل هي دولة طبيعية تهتمّ بأمور شعبها أم لا؟ هل «الجمهورية الإسلاميّة» محكومة بالمنطق أم بالأوهام؟
يشير إعلان البيت الأبيض، عن أنّ لا علاقة للولايات المتحدة بالهجوم على «ناتانز»، إلى رغبة إدارة جو بايدن في التوصل إلى اتفاق مع إيران في شأن العودة إلى الاتفاق المرتبط بملفّها النووي. مثل هذا الموقف الذي اتخذته الإدارة الأميركية يعكس حسن نيّة من جانبها، لكنّه لا يخفي العجز عن ضبط إسرائيل التي تمتلك أجندة خاصة بها في ما يتعلّق بالملفّ النووي الإيراني.
قد يكون على إيران الاعتراف أوّلاً بأن العالم تغيّر. وهذا مرفوض من النظام فيها، إلى اشعار آخر، على الرغم من أن الشعب الإيراني يعرف ذلك بأكثريته الساحقة. تلك الأكثريّة التي سئمت نظاماً ليس لديه ما يقدّمه غير البؤس والفقر.
قد يكون على إيران أيضاً الاعتراف بأنّ العالم ليس مستعدّاً لمدّها بالمال من أجل الاستمرار في مشروعها التوسّعي الذي يهدّد الاستقرار في المنطقة كلّها. فوق ذلك كلّه، لا تستطيع إيران تجاهل أن البلدين اللذين تعتمد عليهما في مشروعها التوسّعي، وهما الصين وروسيا على علاقة أكثر من طيّبة مع إسرائيل. كذلك، إن لكلّ من الصين وروسيا مصالح في المنطقة كلّها تتجاوز إيران. لا يمكن للبلدين تجاهل هذه المصالح الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، إضافة بالطبع إلى أوروبا والولايات المتّحدة نفسها وافريقيا. تظلّ أميركا الشريك التجاري الأكبر للصين على الرغم المنافسة القائمة بينهما والتي اشتدت في هذه المرحلة بالذات.
لا علاقة لعالم 2021 بعالم 2015 لدى توقيع الاتفاق المتعلّق بالملفّ النووي الإيراني بين «الجمهوريّة الإسلاميّة» من جهة ومجموعة الخمسة زائداً واحداً، أي البلدان الخمسة ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا، من جهة أخرى. لنأخذ العراق مثلاً. كان العراق في تلك المرحلة تحت السيطرة المباشرة لإيران. هناك تغيير كبير حصل في السنوات الأخيرة بفضل وعي الشعب العراقي للواقع المتمثّل في أن هيمنة إيران ليست حلاً ولا يجوز لها أن تستمرّ إلى ما لا نهاية.
لم تجد إيران ما تقدّمه لأي بلد سعت إلى السيطرة عليه، أكان ذلك في العراق أو سورية أو لبنان أو اليمن. باختصار شديد، كشف مرور الوقت إيران الغارقة في الوحول السورية حيث لا تجرؤ على الرد على الضربات الإسرائيلية المتتالية. أمّا في لبنان، فكل ما نجحت فيه إيران هو تفليس بلد وتهجير شعبه وتدمير مؤسساته عن بكرة أبيها. يعاني اللبنانيون من الجوع والعوز بسبب إيران التي أصرّت على الإتيان بميشال عون رئيساً للجمهورية. يبقى اليمن. يصعب إيجاد كلمة إيجابيّة واحدة في وصف النفوذ الإيراني الذي زاد المأساة اليمنية عمقاً على كلّ المستويات. يمكن أيضاً الإشارة إلى الوجود الإيراني في قطاع غزّة الفلسطيني الذي تسيطر عليه «حماس» المتحالفة مع إيران. ماذا جنى الفلسطينيون من إيران غير دفعهم إلى الانتحار وتحويل غزّة إلى سجن في الهواء الطلق لمليوني فلسطيني؟
لم يخدم المشروع التوسّعي الإيراني سوى إسرائيل التي يتبيّن كلّ يوم أن أجندتها الإيرانيّة هي الأجندة المعمول بها على الرغم من تبرؤ البيت الأبيض من الهجوم على «ناتانز». كان لافتاً وقوع الهجوم، الذي وصفته مصادر غربية وإسرائيلية بأنّه «هجوم إلكتروني» مع دور محتمل لـ«الموساد» الإسرائيلي، في وقت كان يزور وزير الدفاع الأميركي لويد اوستن إسرائيل. جعل ذلك رئيس الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية علي أكبر صالحي يقول في بيان له إن الحادث في «ناتانز» هو الثاني منذ يوليو الماضي وكان نتيجة عمل «إرهابي». أضاف صالحي أن «إيران تحتفظ بحقها في الرد على مرتكبي هذا العمل». قبل ذلك، أشار الناطق باسم اللجنة البرلمانية للطاقة مالك شريعتي نياسر إلى «تخريب أو تغلغل». هذا كلام خطير يحتاج إيضاحاً نظراً إلى أنّه يكشف وجود خلايا إسرائيلية في الداخل الإيراني.
كيف يمكن لإيران الردّ؟ هناك طريقان أمامها. الأوّل الاستمرار في إطلاق الكلام الكبير الذي لا معنى له، خصوصاً أن ذلك ثبت بعد اغتيال الأميركيين لقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني في الثالث من يناير 2020 وبعد اغتيال الإسرائيليين للعالم النووي محسن فخري زادة قرب طهران. يترافق الكلام الإيراني الكبير وعن «ردّ مزلزل» على أميركا وإسرائيل مع إمعان في تخريب العراق وسورية ولبنان واليمن.
في المقابل هناك طريق آخر يمكن لإيران استخدامه والسير فيه. يقوم هذا الطريق على فكرة التصالح مع الذات واعتماد المنطق والاقتناع بأنّ المشروع التوسّعي لا أفق له. لا تستطيع دولة لا تملك اقتصاداً كبيراً منتجاً لعب أدوار تفوق حجمها بأي شكل.
لا ترجمة لهذا الطريق الآخر سوى بالتعاطي مع الواقع المتمثّل في أن العودة الأميركية إلى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني لا يمكن فصلها عن السلوك الإيراني في المنطقة وعن الصواريخ الباليستية. في النهاية، بين ما تغيّر في المنطقة أيضا بين 2015 و 2021 وجود إسرائيل في منطقة الخليج أوّلاً وقدرتها على الاحتفاظ بأجندة خاصة بها في ما يتعلّق بإيران ثانياً.
أميركا غير مستعجلة. أميركا لا تستطيع الدخول في مواجهة مع إسرائيل من أجل إيران. أكثر من ذلك، هناك همّ أميركي خاص بإدارة جو بايدن هو الهمّ الصيني. لا وجود لسياسة خارجية أميركية في الوقت الحاضر غير سياسة مواجهة الصين التي وقعت معها إيران أخيراً اتفاقاً إستراتيجياً لمدّة ربع القرن غير واضح المعالم.
ليس معروفاً هل في إيران من يمتلك ما يكفي من الجرأة للتعاطي مع الواقع بدل متابعة الهرب منه إلى خارج حدود «الجمهورية الإسلاميّة» حيث المشكلة الحقيقية لإيران؟ مشكلة إيران في داخل إيران وليس خارجها. الأكيد أن السلاح النووي لن يحلّ هذه المشكلة، كذلك لن تحلها لا الصواريخ ولا المشروع التوسّعي بميليشياته المذهبيّة.