يجلس على المقعد الخلفي من السيارة التي يقودها جدّه... يراقب جدّته الجالسة على المقعد الأمامي، طفل مهووس بالتحليل، ودقّة الملاحظة، مفعم بالذكاء العالي والفطنة.
يصبح السؤال الآن هل الذكاء والفطنة يكفيان؟
نكمل لنجيب تلك الجملة: جلس يتأمّل وجه جدته المريضة بالسرطان في مرحلته الرابعة، ويرى حالتها المتدهورة، وبينما هو يراقبها ويحلّلها ويراقب تنفّسها ويحسب العمر الزمني مع القدرة الجسديّة، صرخ فرحاً بنفسه وفخوراً بها قائلاً: جدّتي أظنّ أنّك ستموتين قبل جدّي، فأنت تعبة جداً، انظري إلى يديك ووجهك، إنك تكادين لا تستطيعين التنفّس.
كان يظنّ ذاك الطفل البريء أن جدّه سيثني على ذكائه في التحليل، وعمقه ودقّته في الوصف، إلا أن ما حدث كان مخالفاً لتوقعاته، فجدته بكت بكاء حاراً من كلامه.
ما اضطر الجد أن يوقف السيارة ليهدئها، مع توبيخات وتوجيهات صارمة له بحدّة:
- اسمع يا بُني: أن تكون ذكياً شيئاً، وأن تؤذي مشاعر الآخرين شيء آخر، لن يفيدك ذكاؤك إن لم تراعِ الغير به.
وبعد سنوات من هذه الحادثة المؤلمة، التي طبعت منحى جديداً على حياته ورؤية ناضجة لتصرفاته، تحديداً عند بلوغ ذاك الطفل 21 سنة من عمره، صعد إحدى المنصّات في حفلة تخرّج، كان هو مقدّم الحفل فيها، ليقصّ قصّته مع جدّته للجميع وقال:
- احذر ذكاءك إن دمّر غيرك، واحذر شجاعتك إن دمّرتك، واحذر خوفك إن أعاق مسيرتك، واحذر قلبك إن لم يهمس إنذارات تنبهك، احذر بُعدك عن نفسك مرّة، وبُعدك عن التفاعل واللطف مع الآخرين آلاف المرّات، فبُعدك عن نفسك سيفقدك نفسك، أما بُعدك عن التعامل الجيد مع الآخرين فسيفقدك تجارب حياتية، لن تتعلمها وأنت منغلق على نفسك.
خبراتنا هي محطّات في حياتنا نعيد ترتيبها من جديد، ومع كل فكرة يُعاد ترتيب شيء فينا، قد يُحذف شيء، وقد تُضاف آلاف الأشياء.
لذلك لا تنبهر بما تملك إن كنت لا تعرف كيف تستخدمه بالشكل الصحيح، أو الوقت الصحيح، أو الموقف الصحيح.
وتذكّر أن الذكاء موهبة، وكيفية التعبير عنه خيار، والإبداع موهبة، وطرق تنفيذه بشكل سليم خيار!
ومعظم ما تملكه من دون تعب هبة من الله، وطرق استثماره بالشكل الصحيح خيار!Twitter &instgram:@drnadiaalkhaldi