رغم كل محاولات الإيحاء بـ«لبْننة» المشكلة والحلّ في ما خص أزمة تأليف الحكومة، فإنّ مَفاصل المأزق المتمادي منذ أغسطس الماضي، تؤكد المؤكدَ لجهة طغيان العنصر الإقليمي عليه و«استفادته» من تعقيداتٍ داخلية باتت أشبه بـ«ستارة» للمسرح الفعلي الذي يتحرّك به وعليه الواقعُ اللبناني.

ولم يكن أدلّ على هذه الخلاصة المُسلَّم بها في الكواليس من خروج الملف الحكومي في الأيام الماضية من دائرة «مسكّرة عالآخِر» إلى ما يشبه وضعية الـ«أسْود فاتح» على متن «حركة أفكار»، يدير خيوطها رئيس البرلمان نبيه بري، وأرستْ الرسمَ التشبيهي لحكومة من 24 وزيراً (وفق توزيعة 3 ثمانيات) صارت بمثابة الإطار لأي تسوية حكومية... ولو بعد حين.

وإذا كانت صيغةُ الـ 24 وزيراً من الاختصاصيين غير الحزبيين وبلا ثلث معطّل لأي فريق «أقلعت» في العلن باقتراح من رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط قبل أن يتبنّاه بري ويحاول توفيرَ نصابِ تَحَوُّلِه مبادرةً «مكتملة التفاصيل»، فإنّ توقيتَ الدفْع بهذا الطرح إلى الواجهة عبر «الرافعة السياسية» التي لطالما شكّلها بري لاستيلاد المَخارج للأزمات، عزّز الاقتناع بأن لا إمكانَ لفصْلِ المسعى المستجدّ رغم عدم وضوح مآلاته حتى الساعة، عن الحِراك الديبلوماسي على جبهة النووي الإيراني عبر محادثات الـ 4 + 1 (عن بُعد) في فيينا التي تشهد جولةً جديدةً أوسع نطاقاً الثلاثاء تشمل واشنطن وإن خارج نطاق محادثات مباشرة مع طهران.

وفي رأي أوساط سياسية أن ما يجري في لبنان هو أقرب إلى تهيئة الأرضية لملاقاةِ «المرحلة النووية» التي لا يُنتظر أن تشهدَ انفراجاتٍ وشيكةً والتي يفترض أن يتضح الثلاثاء منسوب الصعوبات التي ستعترضها، لافتة إلى أن تشكيلةَ الـ 24 وزيراً يمكن أن تكون الانعكاسَ لأي «تَعايُش» أميركي - إيراني حول النووي، ومشيرة إلى أن «تدوير زوايا» هذه الصيغة عبر توزيع الحقائب وضمان عدم حصول فريق رئيس الجمهورية ميشال عون على الثلث المعطّل سيبقى محكوماً بـ «سرعة» المباحثات مع طهران ومقتضياتها وما إذا كانت الأخيرة في وارد اعتماد سياسة «الشدّ والرخي» في ساحات نفوذها (ولا سيما الممْسوكة بالكامل) في الطريق إلى إحياء الاتفاق.

وفيما لا تُسقِط الأوساط أن ثمة عناصر خارجية أخرى لا بدّ أن تكون حاضرة في أي حلّ جدي للأزمة اللبنانية وهذا يتطلب توافر تقاطُعات أبعد من الملف النووي وتطلّ على عنوان أدوار إيران وحلفائها في المنطقة، فهي ترى أنه كلما كانت الحكومة العتيدة متوائمة مع مواصفات المجتمع الدولي كلما كان أسهل تسويقها وتعبيد الطريق أمام الدعم المالي الذي يحتاج إليه لبنان بشكل طارئ لتفادي ارتطامٍ مدمّر لم تعُد دوائر ديبلوماسية تُخْفي «الرعب» من حصوله وتشظياته، ولا سيما مع دخول البلاد في عدّ عكسي بأسابيع لا تتجاوز السبعة لنضوب بقايا احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية.

وفي حين كان الحذَر الشديد يواكب حركة بري في ظلّ عدم بروز أي مؤشرات يمكن الارتكاز عليها لتوقُّع اختراقٍ فعلي على جبهة عون - الرئيس المكلف سعد الحريري في ضوء محاذرة أي منهما إعطاء أجوبة رسمية على «مكوّنٍ» من المبادرة على طريقة «الخطوة مقابل خطوة» قبل اكتمال كل «عناصر الطبخة»، فإنّ الأوساط توقفت عند ارتسام سياسة «العصا والجزرة» بإزاء لبنان بأوضح صورة في الأيام الماضية في إطار الحض على إنجاز الحكومة «الآن وليس غداً».

وبعد وضْع مسألة العقوبات الفرنسية - الأوروبية وربما الأميركية، على معرقلي التأليف على الطاولة على وقع «بيان التقريع» من الخارجية الفرنسية للمسؤولين اللبنانيين، برز ما يشبه «الترغيب» الذي شكّله الكشف عن أن ألمانيا ستعرض في 7 الجاري مقترحاً وافق بنك الاستثمار الأوروبي على المساعدة بتمويله (بما بين 2 الى 3 مليارات دولار) ويشمل إعادة بناء مرفأ بيروت والمناطق المحيطة التي دمّرها انفجار 4 أغسطس 2020.

وفي سياق غير بعيد، برز ما نقله الاليزيه عن فحوى الاتصال الذي جرى مساء الخميس بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان حيث جاء في البيان الفرنسي أن «ثمة توافقاً مع السعودية حول ضرورة تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات لإخراج لبنان من أزمته الحادة. وأن الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي يتشاركان الرغبة نفسها برؤية حكومة ذات صدقية تشكيلها شرط لحشد مساعدات دولية طويلة الأمد».

وإذ غاب هذا المضمون عن البيان الرسمي السعودي الذي صدر حول الاتصال بين بن سلمان وماكرون، فإن دوائر توقّفتْ عند كلام وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، لشبكة «سي ان ان» وتحديداً قوله «نريد من إيران وقف أنشطتها التي تتسبب بزعزعة الاستقرار في المنطقة وسلوكها العدواني... ولا يمكن أن يكون هناك تَقارُب من دون معالجة هذه التهديدات الخطيرة جداً للاستقرار والأمن الإقليمييْن، من لبنان إلى سورية والعراق واليمن (...)»، بما له من دلالاتٍ على أن عنوان «نفوذ طهران» يبقى أولويةً لن يمحوها مسار النووي أياً كانت اتجاهاته.

وفي موازاة ذلك، لم يسجّل المشهد الداخلي الذي يأخذ استراحة عيد الفصح سوى حركة كانت محورها بكركي التي زارها الرئيس عون عصر أمس معايداً البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الذي يضطلع بدورٍ يُلاقي مسعى بري ويواكبه وعبّر عن خطوطه العريضة في رسالة الفصح حيث حدّد المعايير المطلوبة لـ«‌حكومة اختصاصيين مستقلين غير حزبيين لا يملك فيها أي طرف سياسي أو حزبي أو نيابي الثلث المعطل الذي هو أساساً غير موجود في الدستور أو في الميثاق، وتتبع في عملية تأليفها نص المواد الدستورية وروحها ومفهوم الميثاق الوطني دون فذلكات لا مكان لها في الظرف الراهن».

وانتقد الراعي بحدّة «جميع المتسببين في أزمة عدم تشكيل الحكومة» قائلاً: «كفوا عن السلوك المهين والمهيمن والأناني والسلطوي. كفوا عن التضحية بلبنان واللبنانيين من أجل شعوب وقضايا ودول أخرى. كفوا عن الاجتهادات الشخصية في التفسيرات الدستورية وعن البدع الميثاقية. وطننا وطن السلام لا وطن الحروب والفتن والاغتيالات، وطن الانفتاح لا وطن الانعزال». وأضاف: «كم يؤلمنا أن نرى الجماعة الحاكمة ومن حولها يتلاعبون بمصير الوطن وأن بعضاً من هذه الجماعة يتمسك بولائه لغير لبنان وعلى حساب اللبنانيين». وأعطى كلام عون بعد لقاء الراعي إشارة إلى الصعوبات التي ما زالت تعترض الملف الحكومي إذ قال «إن العقد تتوالد كلما نفك وحدة بتولد عقدة تانية»، لكنه تدارك أنه دائماً متفائل.

ورد على سؤال حول موعد الخروج من النفق بالقول: «تا يرجع الرئيس المكلف (من الخارج)».