في يونيو 2018، زارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بيروت على رأس وفد اقتصادي كبير يمثّل شركات عالميّة مهمّة من بينها «سيمنز». هل تعود ألمانيا الآن إلى بيروت من بوابة إعادة بناء المرفأ المدمّر؟

كانت زيارة المستشارة في 2018 فرصة للبنان، كي يستفيد منها عن طريق البحث في كيفية العودة إلى بلد طبيعي يمتّع بالكهرباء 24 ساعة على 24، كما فعلت مصر التي كلفت «سيمنز» تلك المهمّة. فضل لبنان، وقتذاك، تجاهل «سيمنز» وعرضها لأسباب، تتعلّق بضرورة بقاء ملفّ الكهرباء تحت سيطرة «التيّار الوطني الحر»، وهو حزب رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل.

جاءت زيارة المستشارة الألمانية للعاصمة اللبنانية مباشرة بعد الانتخابات النيابية اللبنانية في مايو 2018، وبعد شهرين من انعقاد مؤتمر «سيدر» في باريس، الذي خصّص مبالغ مهمّة من أجل إعادة بناء البنية التحتيّة مشترطاً إصلاحات معيّنة يتوجب على الحكومة اللبنانية القيام بها.

كان «سيدر» مبادرة فرنسيّة تستهدف إنقاذ لبنان المهدّد بالانهيار. كانت لدى فرنسا ما يكفي من العطيات للاتفاق مع سعد الحريري، رئيس مجلس الوزراء وقتذاك، على خطة عمل تفادياً للمصير اللبناني القائم حالياً، الذي كان الرئيس إيمانويل ماكرون يخشى من الوصول إليه.

بين صيف 2018 وربيع 2021، تغيّر الكثير في لبنان... ولكن نحو الأسوأ. ما لم يتغيّر هو عجز الحكومة اللبنانية عن القيام بالإصلاحات الحقيقية، وهي ليست إصلاحات من أيّ نوع، خصوصاً بعدما تبيّن أن عهد ميشال عون – جبران باسيل، الذي بدأ في 31 أكتوبر 2016 هو في الواقع «عهد حزب الله». لم يخف «حزب الله» أنّ العهد عهده. انتظر قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني قاسم سليماني، الذي اغتيل لاحقاً بواسطة طائرة أميركية من دون طيّار، صدور نتائج انتخابات مجلس النوّاب اللبناني ليعلن أن إيران صارت تمتلك أكثرية في هذا المجلس.

لا يزال السؤال نفسه مطروحاً منذ بدأ «عهد حزب الله». هل يستطيع بلد يسيطر عليه لواء في «الحرس الثوري» الإيراني السماح القيام بإصلاحات؟ الجواب لا وألف لا. كلّ ما هو مطلوب إفقار لبنان أكثر وتهجير أكبر عدد من أهله، خصوصاً من المسيحيين. لهذا السبب وليس لغيره لا وجود لأي أفق ذي ملامح إيجابيّة للبنان في المدى المنظور.

كلّ ما هناك إمعان في تأكيد أن لبنان موجود تحت السيطرة الإيرانية الكاملة بصفة كونه ورقة في المفاوضات بين طهران وواشنطن في شأن العودة إلى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني بشروط «الجمهوريّة الإسلامية». يؤكد ذلك سلوك «حزب الله» في لبنان. لم يكتف الحزب بعرقلة تشكيل حكومة مستخدماً «التيّار الوطني الحر»، أي «التيّار العوني»، الذي يتاجر بما يسمّيه حقوق المسيحيين في لبنان. نرى الحزب يذهب إلى استهداف كلّ شخصيّة لبنانية حرّة مثل النائب السابق فارس سعيد، الذي يلعب دوراً فعّالاً على الصعيد الوطني في مجال كشف الدور التدميري الذي يلعبه سلاح «حزب الله». لا يستطيع «حزب الله» التصدي مباشرة للبطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي ينادي بـ«الحياد» اللبناني وبـ«مؤتمر دولي» من أجل إنقاذ البلد. لذلك، نجده يختلق دعاوى قضائية ضد فارس سعيد الذي سيمثل قريباً أمام القضاء في قضية رفعها «حزب الله» متهماً إيّاه بالعمل على «إثارة حرب أهليّة». كل ما في الأمر أن فارس سعيد لم يستبعد أن يكون لـ«حزب الله» دور في تفجير ميناء بيروت في الرابع من أغسطس الماضي، بسبب أطنان مادة الأمونيوم التي كانت مخزّنة في أحد العنابر داخل المرفأ.

من خلال ملاحقته لفارس سعيد وعجزه عن إسكات البطريرك الماروني، يريد «حزب الله» أن يفرض بالقوّة أنّه في ظلّ العهد الحالي، وهو عهده، يستطيع أن يفعل ما يشاء في لبنان، بما في ذلك التركيز على شخصية وطنيّة مثل فارس سعيد. يفعل ذلك من أجل تأديب اللبنانيين الأحرار به.

من الواضح أنّ فارس سعيد، لم يفتح ملفّ تفجير مرفأ بيروت كي يغلق غداً. هذا ملفّ ضخم في غاية الخطورة كان بين من تطرّق إليه أيضاً آخرون مثل النائب نهاد المشنوق (وزير الداخلية السابق) الذي كشف قبل بضعة أسابيع تفاصيل دقيقة عن الجريمة التي استهدفت العاصمة اللبنانية كلّها بأهلها وأحيائها، ملمّحاً بدوره إلى مسؤولية ما لـ«حزب الله». ما لا يمكن تجاهله أن تفجير المرفأ استهدف لبنان ودوره في المنطقة. من هذا المنطلق، يمكن فهم لماذا اختارت ألمانيا المرفأ وإعادة إعماره مدخلاً إلى نجدة لبنان وإنقاذه من جهة وتأكيد المصالح الأوروبية في البحر المتوسّط من جهة أخرى.

كشف السفير الألماني في بيروت أندرياس كيندل عقب التقارير التي تحدثت عن أن الحكومة الألمانية ستقدم اقتراحاً، لإعادة إعمار مرفأ بيروت، أن حكومة بلاده على دراية بالدراسة التي أجرتها شركات خاصة عدّة تتضمن اقتراحاً، لتطوير المرفأ والمناطق المجاورة بعد انفجار الرابع من أغسطس 2020.

وأشار إلى أن مجموعة ممثلين لهذه الشركات، ستصل إلى بيروت الأسبوع المقبل، مشدداً على أن «هذه ليست دراسة أو مقترحاً مقدماً من الحكومة الألمانية لإعادة بناء المرفأ».

أضاف البيان الذي أصدره السفير: «ألمانيا هي واحدة من أكبر المانحين في لبنان، وهي شريك فاعل في الإصلاح وإعادة البناء، وهي تدعو جميع الأفرقاء اللبنانيين لتلبية تطلعات الشعب اللبناني عبر تشكيل حكومة مهمة، ذات صدقية، وقادرة على تطبيق الإصلاحات. فقط، من خلال تطبيق الإصلاحات الاقتصادية الفعالة ستتمكن السلطات اللبنانية من إعادة بناء الثقة مع المجتمع الدولي، وستتمكن من تأمين الشروط التي تجذب دعم المستثمرين»...

الأكيد أن الشركات الألمانية لا تتحرّك في معزل عن الحكومة الألمانية. ما هو أكيد أيضاً أنّ العالم، في مقدّمه ألمانيا وفرنسا، يعرف ما المطلوب من لبنان في حال كانت هناك رغبة في الخروج من حال الانهيار التي يعاني منها. المطلوب تشكيل حكومة تضمّ اختصاصيين قادرة على القيام بالإصلاحات. الأكيد أخيراً أن ليس بحملة على فارس سعيد يستطيع «حزب الله» إثبات أنّه يريد مصلحة لبنان ومواطنيه، بما في ذلك الشيعة.

يستطيع ذلك بدعمه لما يقوم به الرجل والاقتناع بأنّ لا مخرج آخر أمام اللبنانيين، من كل الطوائف والمذاهب، غير ما يطرحه البطريرك الماروني وليس ما يختبئ خلفه عهد ميشال عون – جبران باسيل، الذي يريد استعادة حقوق المسيحيين بسلاح «حزب الله»!