أفادتنا الأنباء أخّيراً بأن السلطات المحلية في ولاية مينيسوتا، دفعت مبلغاً قدره 37 مليون دولار لعائلة جورج فلويد، المواطن الأميركي الأسود والذي أسلم الروح بعد عذاب ومعاناة نتيجة ضغط الشرطي الأبيض ديريك شوفين على رقبته، في 25 مايو الماضي، بينما هو يردد «لا أستطيع أن أتنفس».
أضحت تلك الجملة محور تداول في كل وسائل الإعلام العالمية. وبما أن الشيء بالشيء يُذكَر، فالسؤال هو ما هي الفدية المعنويّة و/أو الماديّة التي تطلبها طهران من «بلاد الأرز» كي توقف ضغطها وقسوتها وتسلّطها وتحكّمها ليس فقط على رقاب لبنان بل على رقاب كل اللبنانيين والذين كما كان الحال مع فلويد لم يعد بإمكانهم التنفّس؟
مناسبة ما سبق من كلام، هو الوضع المزري - والذي أضحى واضحاً للعيان كعين الشمس - على كل المستويات والقهر والذل والهوان الذي ينتاب كل اللبنانيين من دون استثناء. تصلنا رسائل طهران عبر «حزب الله» الممثل الوحيد والشرعي لطهران (على شاكلة منظّمة التحرير الفلسطينية والتي كانت توصف بالممثل الوحيد والشرعي للشعب الفلسطيني!!) في لبنان، وهذا بإجماع الناس، البسطاء منهم والعقلاء!
وخوفي أنه كما لقي لويد حتفه جراء الخنق، فقد يكون ذلك مصير بلاد الأرز! ولعلّ أولياء الأمر في إيران لا يعلمون ماذا يفعلون لأن لبنان الحيّ، المتألّق، المتميّز، الديموقراطي، المنفتح، الحر، المستقل العلماني، أكثر فائدة للبنانيين ولهم وللعالم... من موته!!
لبنان الرسالة، كما ذكر البطريرك الراعي نقلاً عن البابا الراحل بولس الثاني، على العكس تماماً، ما ذكره أمين «حزب الله» في خطاب سابق حين قال «إذا يوجد أحد في الكرة الأرضية يحسّ أن لبنان له وجود على الخريطة فهو بسبب هذه المقاومة وهذه الصواريخ».
والحق، فقد ملَلْنا من سماع معزوفة الصواريخ، التي بقيت صامتة منذ عام 2006 ولا تزال، ويا ليتها تُوجّه إلى الطائرات الإسرائيلية التي تغير على المواقع الإيرانية في سورية. والكل يعلم أن تلك الصواريخ كانت ولا تزال موضع مفاوضة بين واشنطن وطهران وتل أبيب. والمؤسف كما ذكر وزير الدفاع الإسرائيلي بيلي غانتس أن العدو على دراية بمواقع تلك الصواريخ والتي تم تثبيتها بين الأحياء السكنيّة في أرجاء البلاد.
وزير سابق معروف بحكمته وصواب رؤيته، فاجأني حين قال لي، وأنا أنقل كلامه حرفيّاً «هذا أسوأ زمن تشهده البلاد منذ أن جِيء على ذكر لبنان في التوراة!»
ولا غرابة في قوله... فباستطاعة المراقب لا بل المواطن العادي أن يلحظ بأن كل يوم جديد يطل علينا هو أسوأ مما سبقه... وكأن المرء يتمنّى أن يتوقّف الزمن... وألاّ ينبلج فجر جديد!
ما قاله الوزير الصديق ذكّرني بما ذكره لي الأمين العام السابق للخارجية ظافر الحسن حين التقى الرئيس الراحل الياس سركيس، قبل سفره إلى الخارج كسفير مُعتمد للبنان. اجاب سركيس، الحسن، حين سأله عن الوضع، قائلاً: c’est un impondérable، أي لا يمكن تقديره أو توقع ما يحصل (!) علماً أن الوضع يومها كان أقل سوءاً بكثير مقارنةً بما يجري اليوم حيث لا يُمكن توقّع ما يحصل خصوصاً في ظلّ السلوك السياسي للفريق الرئاسي والذي بتهوّره ومسلكه الطائفي، لا يخدم كي - لا نقول - يُسيء إلى مقام رئاسة الجمهورية، الذي نحترم.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، فحين أُعلن أن رئيس الجمهورية يرغب في إلقاء كلمة مُتلفَزة على اللبنانيين ظننّا أن الرئيس سوف يزفّ لنا خبراً في غاية الأهمية يزيل الكآبة عن صدورنا (كإبلاغنا أن طهران وافقت على فك أسر لبنان أو أن مجموعة دولية قررت منح لبنان قروضاً مالية كبيرة بفائدة لا تُذكَر...!!) لكن تبيّن لنا ما أضحى معلوماً: إنذار إلى الرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة أو الاعتذار، اعتبار الرئيس المكلّف «مالئ خانات» (نبيل بو منصف «النهار» 25-3-2021)، إضافةً إلى التمسّك المُستتر بالثلث المعطّل!
وأكاد أجزم أن ما جرى يُعدّ سابقة لن يُقدِم عليها أي رئيس جمهورية في المستقبل، إضافةً إلى استدعاء سفراء دول مؤثرة إلى قصر بعبدا.
لكن السلوك الرئاسي ليس مُستغرباً لأننا أيضاً لن نشهد في المستقبل رئيساً للجمهورية يعمل على توريث صهره، كما هو الحال اليوم. يحقّ لرئيس الجمهورية أن يتصرّف بملكه الخاص لكن لبنان ليس ملكاً له وليس ملكاً لأحد. أليست مفارقة أن الجهود تُبذَل لتوريث وزير الطاقة الأبدي جبران باسيل في حين أن إسرائيل شهدت أربع انتخابات برلمانية؟ في مقابلة تلفزيونية، ذكر غسان عيّاش النائب الثاني السابق لحاكم مصرف لبنان أن الفريق الرئاسي لم يكن مخلصاً للرئيس ذلك أنه لم يتحقق إنجاز واحد منذ أن تولّى العماد عون سُدّة رئاسة الجمهورية!
لقد أصبح ثابتاً أنه في العهد الذي وصف بالعهد القوي أضحت الدولة أكثر من فاشلة واستشرى الفساد بشكل مخيف. أضحت الدولة بما اسمّاه غونار ميردال، السويدي الجنسية، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1974، وهو من أهم الاقتصاديين في القرن العشرين في كتابه «الدراما الآسيوية، بحثٌ في اسباب فقر الشعوب»... بالدولة الرخوة ويعني بذلك تلك الدولة التي تضع القوانين ولا تطبقها (قانون استرداد الأموال المشبوهة، مثالاً) ليس فقط لما فيها من ثغرات ولكن لأن لا أحد يحترم القانون.
الكبار لا يبالون به لأن لديهم من المال والسلطة ما يكفي ليحميهم منه والصغار يتلقّون الرشاوى لغض البصر عنه وخسارة الدولة تشجّع على الفساد، وانتشار الفساد يزيدها فساداً الذي ينتشر في السلطتين التشريعية والتنفيذيّة حتى يصل إلى القضاء والجامعات، ويصبح الفساد في ظل الدولة الرخوة أسلوب حياة. ومن أهم سيمات هذه الدولة:
1 - عدم احترام القانون وضعف ثقة المواطنين به، وكثيراً ما يطبق على مناهضي الفساد.
2 - وجود مؤسسات حكومية أكثر من اللازم ولا فائدة منها.
3 - نسيج اجتماع منقسم.
4 - انهيار البنية التعليمية المدرسية والجامعية.
5 - غياب الشفافية وعدم الفصل بين المصلحة العامة والخاصة، بين المال العام والخاص.
في 16 أغسطس الماضي، كتب المؤرخ الفرنسي جان بيار فيليوفي مقالته الأسبوعية في «لوموند» أن «عون يجسّد حالة رفض الإصلاحات التي يشجّع عليها الإليزيه».
بعده، كتب الصحافي كريستيان شينو في 30 أغسطس «أهلاً وسهلاً في لبنان بلد تحول فيه الفساد إلى صناعة محليّة».
وكان وزير الخزانة الأميركي السابق ستيفن منوشين صرّح قائلاً: «لقد ساعد الفساد الممنهج في النظام السياسي اللبناني الذي مثّله باسيل على تقويد أسس حكومة فعّالة تخدم الشعب اللبناني».
ردّ باسيل متّكئاً كالعادة على الطائفية والتعصّب مستخدماً وموظّفاً الدين لمصالحه الشخصيّة، قائلاً «كُتِبَ علينا في هذا الشرق كي نحمل صليبنا كل يوم... لنبقى».
ولا أدري، بأي حقٍّ يتاجر ويوظّف باسيل بالصليب وكأن توجيه تهم الفساد إليه يعني توجيه التهمة إلى الصليب والمسيحيين!!
والحق، ليس من العدالة أن تقتصر العقوبات الأميركية على باسيل، علماً أن هنالك عشرات وعشرات من السياسيين على اختلاف ميولهم السياسية الذين يستحقون أيضاً فرض العقوبات عليهم نتيجة فسادهم المستشري.
سئمنا الجدال العقيم حول المادتين 53 و64 من الدستور، والتي أضحى صراعاً بين من «يُشكّل» ومن «يُصدر». والحقّ فإن المشترع اللبناني أخطأ حين وضع الدستور، لأنّه ظنّ أن «الوطن مودّات»، كما يرى مورّاس، وأنه «شراكة أحلام»، كما يرى مارلرو.
لكن تبيّن في ظل السلوك السياسي السائد أن الوطن شراكة ضغائن وطائفية ومحسوبية ومذهبيّة ومصالح إقليمية وأن تفسير الدستور خاضع لاعتبارات مصلحيّة لا تمتّ الى مصلحة الوطن بصلة.
ويبدو أنّه سها عن بال المشترع ان يورِد فقرة في الدستور تنصّ على أن تطبيق مواده لا يستقيم بوجود حزب مسلّح يعمل لمصالح طرف إقليمي. وكنت انتظر من نواب «القوات اللبنانية» أو من نواب «المردة» وغيرهم أن يصدروا بياناً - ليس بالضرورة تضامناً مع رئيس الحكومة المكلّف بل لكي يوضحوا عدم موافقتهم على تفسير رئيس الجمهورية للمواد الدستورية في ما يتعلق بالتكليف والتأليف، تعزيزاً للوحدة الوطنية وانطلاقاً من مفاهيم غير طائفيّة طالما أن الهدف هو وحدة البلاد، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل!
أكثر من سبعة أشهر مضت ومازلنا - وقد نستمر لفترة أطول - بلا حكومة، رغم أننا أصبحنا في القعر أو كما ذكر سابقاً الصحافي الراحل رشدي المعلوف «تحت التحت!»
في المقابل، لا يسعنا إلا أن نغتبط للأشقاء الليبيين والذين نجحوا أخّيراً في تأليف حكومةٍ بقيادة عبد الحميدالدبيبة علماً، ولله الحمد، لم نشهد كما شهدت ليبيا صراعاً مسلّحاً دامياً قاتلاً منذ عام 2014 والذي أودى بحياة الآلاف وتسبّب بخسائر جسيمة على مختلف الأصعدة، فكيف يا تُرى انقلب السحر على الساحر وسكتت المدافع في ليبيا؟
وللتذكير، فقد عرف الصراع الليبي أكثر من مؤتمر جمع بين الأطراف المتنازعة أولها في الصخيرات - المغرب 2015، سان كلو - فرنسا 2017، باريس 2018، باليرمو 2018، وآخرها عام 2019.
لكن مع الأسف كل المؤتمرات السابقة لم تثمر إلا بعدما هبط الوحي الدولي لإسكات المدافع ووقف طبول الحرب. تُرى، متى يهبط الوحي الدولي على بلاد الأرز كي نشهد ليس فقط ولادة حكومة جديدة، بل بداية استقرار يؤسس لنهوض مالي واقتصادي؟
بات مملاً تكرار القول إننا بانتظار مفاوضات واشنطن وطهران حول الاتفاق النووي. هكذا يبدو لبنان رهينة مصالح خارجية على حساب مصلحته ومصلحة أبنائه. ومن المؤسف أن يكون ما ذكره الباحث الإسرائيلي في مركز القدس للشؤون العامة وشؤون الدولة والخبير في شؤون «حزب الله» شمعون شابيرا صحيحاً، إذ كتب بأن الجمود السياسي السائد في لبنان سيشل نهائياً الاقتصاد ويؤدي إلى سيطرة «حزب الله» على لبنان بدعمٍ من إيران، مُضيفاً أن الانهيار الداخلي يتقدّم بوتيرة أسرع مما تريده إيران و«حزب الله»، وبالتالي فقد تسقط الدولة اللبنانية مثل ثمرة ناضحة في يد «حزب الله» وتحقق إيران رؤيتها في الاستيلاء على لبنان. (صحيفة «هاراتس» 15-3-2021).
لبنان رهينة. والنظام الإيراني هو الخاطف من خلال ذراعه الأمنيّة المحليّة «حزب الله». ولعلّ من الضروري أن نسارع في القول إن بلاد الأرز لن تتماهى مع الخاطف بناء على «عقدة استوكهولم» حين تماهت المخطوفة مع الخاطفين في استوكهولم وتعاطفت معهم، بل قدرنا الّا نستسلم بل نقاوم لاستعادة حريتنا. لكن الاشكال البارز وهذا ما تؤكده كل التقارير الصحافية أن هنالك فريقاً كان حرّاً وكان وطنيّاً يتماهى مع الخاطف لمصالحه الشخصيّة...
المستجدّات حول الوضع السياسي المأذوم كان محور موعظة الأمين العام لـ «حزب الله» الأخيرة، لمناسبة «يوم الجريح»، ولعلّها أفضل مناسبة عله يُذكَر راعيه الإيراني بأن عدد الجرحى اللبنانيين، ولا أعني جرحى الجسد، بل جرحى الروح والكيان، قد بلغ أرقاماً قياسيّة نتيجة سياسات التسلّط والإكراه التي تمارسها إيران بحق لبنان ونتيجة الأوضاع المذرية، المؤلمة، الجارحة والموحشة التي تمر بها البلاد.
تعليقات مُقتصرة وموجَزة على خطابه والذي يبدو أن من ساهم في وضع الخطاب يعيشون في كوكب آخر. حذّر نصرالله من نشوب حرب أهلية، وكأنه لا يدري أننا حاليّاً نعيش حرباً أهليّة صامتة وأننا نرزح تحت سلام عنفيّ لأنه سلام مفروض بقوّة السلاح... سلام لا يمتّ إلى الودّ والمودّة والتآخي بصلة.
عن قوله بأن حياد لبنان يؤدي به إلى المحور الأميركي - الإسرائيلي، لعلّه تناسى أن راعيه الإيراني يلهث وراء واشنطن للوصول إلى اتفاق معه حول النووي وغير النووي.
أما عن الإسرائيلي فأحيله إلى علاقات الودّ بين النظام السوري... - والتي تجلّت أخّيراً بإرسال لقاحات فيروس كورونا من إسرائيل إلى الأسد الابن - الذي دافع عنه «حزب الله» وسقط من أجله اكثر من 2000 مقاتل من الحزب.
أمّا عن ارتفاع سعر الدولار، فيا ليته يدرك أنه لو تم إنشاء آلاف المنصات فإن هذا الأمر لن يُجدي. ما ينفع هو إزالة العوائق أمام تأليف حكومة قادرة للتفاوض مع صندوق النقد الدولي ومن ثمّ استقطاب رساميل أجنبية كي يتم توظيفها في الداخل اللبناني... إلى آخره.
وفي ما يتعلق بمحاربة الفساد، فنصيحتي أن يتوقّف عن ذلك لأنه يبدو أنه نسي أو تناسى أن حزبه كان شريكاً في الحكومات منذ عام 2008 ولم يحرّك ساكناً، وإذا كانت المعابر غير الشرعية في عكار تُدار برعاية نائب عكّاري سابق وأفراد عائلته، كما يُقال، فما على نصرالله إلا أن يضع حدّاً للمعابر غير الشرعية من الحدود الشرقية مع سورية. أخيراً في توصيته للتعاون مع الصين، يبدو أن أمين عام «حزب الله» تناسى آلام ومآسي اخوانه في الدين «الصينين الإيغور» والذي تضطهدم السلطات الصينية بشكل فادح. ثم ماذا يمكن للبنان أن يقدّم للصين مقابل ما يُؤمَل أن تقدّمه لنا؟
كشفت نتائج استطلاع رأي أجرته أخّيراً مؤسسة «غالوب» ان العراقيين واللبنانيين والتونسيين هم ضمن أكثر الشعوب توتّراً وحزناً، وذلك ضمن استطلاع شمل 145 دولة، جرى عام 2019 وشارك فيه أكثر من 175 ألف شخص من البالغين.
أوَيكون قدرنا ألّا نهنأ وأن نعيش في ظل التوتر والحزن؟ في صفحته الفايسبوكية كتب أحمد بيضون أخّيراً «المجرمون المسلّطون علينا، جعلونا نشعر نحن اللبنانيين المتقدمين في السن هي أشبه شيء لنا بمرض الموت وكأن بلادنا باتت مشفى عجزة لا يحظون فيه بعلاج ولا غذاء ونظافة مقبولين بل يُترَكون بحالهم يتفاقم بؤسها فيما أطبائهم يتناشؤون ما تبقّى من مؤونة المطبخ!»
وإذا كان اللبنانيون يتذمرون من ازدواجية السلطة، بين الدولة و«حزب الله»، فقد سبق لهم أن عانوا الشيء نفسه زمن المقاومة الفلسطينية المسلّحة. صحيح أن ممثّل منظّمة التحرير الفلسطينية السابق في لبنان عباس زكي اعتذر عن التجاوزات والممارسات الخاطئة والمميتة للمقاومة المسلّحة التي ألحقت الأضرار بلبنان واللبنانيين من خلال - إعلان بيروت 2008 - لكن ما نفع الاعتذار بعد كل الذي حصل.
عام 1978، رشق أهالي القرى الجنوبية جنود قوات العدو بالزهور وأطلقوا الزغاريد بعد دخول إسرائيل إلى الجنوب اللبناني. كان ذلك تشفّياً ومن حرقة قلوبهم ومن المعاناة التي عانوها جرّاء الممارسات السلطوية، الاستبدادية للفصائل الفلسطينية المسلّحة. تُرى متى يرحل المستبدّ الجديد، كي تُطلَق الزغاريد...؟