في عام 399 قبل الميلاد، كانت اليونان كلها قلقة... عداه، كان يشعر بالاطمئنان.
وبمشية أقرب إلى الطاووس منها إلى البطريق - وفي ظهيرة أتت مبكراً على غير عادتها - خرجت مجموعة من نساء أثينا الخبيرات بضغط الجسد، وإبراز المفاتن، وتصفيف الشعر، وتدليك الوجه وتطريته بالمساحيق والأصباغ... لكي تشاهد إعدام الفضيلة.
كانت أثينا الديموقراطية التي تُقدّر العدد أكثر من المعرفة، وتُقدر الخُطب الرنانة أكثر من الحكمة... تتجهّز لارتداء أجمل فساتينها من أجل إعدام سقراط. الذي كان رجلاً بقدر ما كان فيلسوفاً.
- «هذا الملعون... عليه غضب الآلهة»... قالها أحد الكُتاب المسرحيين الذي أدمن ذكر العورات على خشبة المسرح بشكل قذر، سيكتب مسرحية ينقضّ فيها على سقراط وفلسفته والتحريض واستعداء الناس عليه... وختم المسرحية بحرق دكّان سقراط وبضاعته الفكرية.
كل ما في الأمر أن سقراط كان أصلع الرأس وذا وجه مستدير وعينين عميقتين ذاتا فراسة، وأنف كبير وعريض، غليظ الشفة... بعيداً جداً عن الوسامة... يجرّ وراءه سبعين عاماً مضت، مشيته أقرب إلى البطريق منها إلى الطاووس، رجل حرّ لا يشعر بالقلق، ولا يخشى طرح الاسئلة.
إنه واحد من الناس المحظوظين، الذين يجدون دائماً أن التصرّف على نحو صحيح أمرٌ سهل، أمه كانت تُولّد نساء اليونان، أما هو فكان يُولّد المعنى من رجالها.
- إن احترام حقوق الجيران أمورٌ لازمة، هكذا سيخبر تلاميذه، لكي يخفضوا أصواتهم في إحدى الأمسيات.
آمن بإله واحد... ورفض تعدّد الآلهة.
فأعلنت عرّافة دلفي الحقيقة، على غير عادتها، وبصوت ورع وخاشع قالت: إنه أحكم وأعقل من في بلاد اليونان.
وإقراراً بذلك قرّرت المحكمة من دون رغبة من المدعين والقضاة معاً، - ولكن بغالبية الأصوات - إعدامه بتهمة إنكار الآلهة والعمل على نشر الفساد الأخلاقي بين الشباب... وهي التهم التي تُقدم عادةً عندما لا يمكن التصريح بالتهم الحقيقية.
كان يسأل الناس في الشارع:
- ما وجه الشبه بين الذبابة... والقمر؟
لم يكتب أي كتاب، ولم يقدّم إجابات وإنما أسئلة فقط، يقال إنه في المساء كلما أراد دخول البيت كان يردد:
- لا أعرف سوى شيء واحد، وهو أنني لا أعرف شيئاً.
في الواقع، لقد كان سقراط يعرف الكثير، فقد قدّم أهم إجابتين لسؤالين من أكثر اسئلتنا تعقيداً: ما معنى الفضيلة ؟ وما أفضل دولة ؟
أعطاه السجَّان السُّم... شربه سقراط بهدوء بينما كل تلاميذه انفجروا في البكاء، تمشّى هنا وهناك، بدأت ساقاه تخونانه، استلقى على ظهره، أصبح بارداً وجامداً، رفع الغطاء عن وجهه وكانت كلماته الأخيرة: «يا كريتو أنا مدين بدِيك إلى أسكيبيوس، أرجوك ألّا تنس دفع هذا الدَّيِن».
كريتو نسي أن يدفع ثمن الديك الذي أخذه سقراط معه للقبر... فتضاعف الدين والفائدة معاً، ليتّضح في 2021م أن 4 في المئة، نسبة من يُعدمون في العالم بسبب الرأي العام، يتبيّن لاحقاً أنهم قضوا بجريمة كان ينبغي أن يُعدم فيها غيرهم.
@Moh1alatwan