عامٌ يطيح بمئة عام... هكذا لبنان «موديل» 2020، الذي تَكاتَفَتْ فيه وعليه مَظاهر التقهقر ومخاوف بـ «مكبرات الصوت» من الزوال في اللحظة التي احتفل منكَّسَ العينيْن بمرور مئة عام على ولادته كبيراً، واعداً ومُشْرِقاً في الشرق الكئيب.
فـ «لبنان الكبير»، المولود في العام 1920 من رحم الجوع والوباء والحرب آنذاك، صارَعَ في الـ 2020 ومن جديد هذا الثالوث الكوارثي والمشؤوم، الذي يكاد أن يصرَعه مع أفول سنةِ الأهوالِ غير المسبوقة على إمتدادِ تاريخه الحديث.
شبحُ الجوع أطل مع «إفلاس» الدولة - الخردة وتَبَخُّر أموال المصارف والناس والإنهيار المريع لليرة... دمارٌ رهيبٌ أَرْكَعَ «زهرة الشرق» على ركبتيْها مع الإنفجار الهيروشيمي الهائل في مرفأ بيروت، وجائحةٌ تجتاح بلا هوادة البلادَ المُنْهَكَةَ المُسْتَسْلِمَةَ لتعبٍ كأنه أبدي، أزلي، سرمدي.
ولعل المفارقة الأكثر إثارة للغثيان في دفتر الـ 2020 ومآسيها، كان السقوط المدوي لفكرة «رجال الدولة»، الذين بنوا على أكتافهم قبل مئة عام لبنان الكبير، فإذا به في الـ 2020 دولةً بلا رجال ولا مَن يحزنون، يتناوب الكبار والصغار في الداخل والخارج على توبيخهم ليلَ نهار.
فالصراعُ المتمادي على السلطة وعلى توزيع الكراسي على سطح التايتانيك سّرع في دفْع البلاد، المتروكة للشهيات «النيرونية» والمكشوفة على تَطاحُن الفيلة في الإقليم، نحو جهنّم وبئس المصير... فـ 2020 تسلّم الدفة بفراغ حكومي ويسلّمها لـ 2021 بفراغٍ مماثل في بلاد تزْحل نحو الإرتطام الكبير بلا رفّة جفن.
365 يوماً... 8760 ساعة... 525600 دقيقة، وكأن لا شمس أشرقت ولا قمر أطلّ ولا فصولاً تعاقبت، وحده الإنهيار الشامل إستوطن بلاد الأرز ومعه الكآبة والعوز والمرض والهجرة والبطالة والبؤس وشتى أنواع الكوابيس التي تشي بأن الآتي أعظم في سنة أخرى مجنونة.
هو عامُ «بيروتشيما» و«تسونامي» الدمار الشامل الذي دَهَم بيروت في يومٍ سيذكره لبنان والعالم الذي اهتزّ في 4 اغسطس مع واحدٍ من أقوى الانفجارات في التاريخ التي لم تنتجها قنبلة نووية.
... «طوفان» دم ودمار حوّل نصف العاصمة حطاماً، وناسها إما أشلاء أو جرحى أو مشرّدين، في انفجارٍ التهم المرفأ الفينيقي ومحا معالم «ست الدنيا» التي ارتسم فيها قرابة السادسة وسبع دقائق من ذاك الثلثاء الأسود ما بدا وكأنه «آخِر الدنيا».
203 ضحايا بينهم أطفال (ونحو 6500 جريح) صارتْ قصصهم محفورةً في «مسرح الجريمة» وعلى امتداد البقعة التي طالها عَصْفُ الموجة الانفجارية التي تسبّبتْ بأضرارٍ فادحةٍ على مسافة 3 كيلومترات من «مركز الزلزال»، ووصل مداها الى 24 كيلومتراً، فيما بلغ دويّ الانفجار جزيرة قبرص.
«أم النكبات» أطلّت من الميناء السائب، ومن خلف غبار أطلال عاصمةٍ ما زالت تبحث مع عواصم الدنيا عن «القاتل» وتحاول تفكيك رموز «الصندوق الأسود» لباخرة RHOSUS التي كانت محمّلة بنحو 2750 طناً من نيترات الأمونيوم، وتوقفت في نوفمبر 2013 في بيروت آتية من جورجيا في طريقها إلى موزمبيق، حيث احتُجزت في المرفأ وخُزنت حمولتها في العنبر رقم 12 إلى أن حصل الانفجار.
ومنذ وقوع الكارثة التي تركت نحو 300 ألف شخص بلا سقف وتسبّبتْ بخسائر قدّرها البنك الدولي بما بين 6.6 و8.1 مليار دولار، تغيّرتْ بيروت ومزاجها، إلا سلوكُ الطبقة السياسية التي كانت ارتبكت من لحظة كشْف أنها لم تقم بما عليها لجهة تعطيل الصاعق الذي فجّر «بيروتشيما» بعدما مرّت «مرور الكرام» على تقرير أمني انطوى على تحذير واضح من إنفجارِ مواد خطرة في المرفأ قد تؤدي إلى تدميره وأجزاء واسعة من العاصمة.
وحتى عندما قرّر المحقق العدلي في الجريمة القاضي فادي صوان الادعاء أخيراً على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب (كُشف أنه أُبلغ بوجود «الشحنة المدمّرة» وكاد أن يزور المرفأ في يوليو لكنه عدل في اللحظة الأخيرة بعد إشعاره بأنها مواد زراعية)، وعلى الوزراء السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس (بتهمة «الاهمال والتقصير والتسبب بوفاة وإيذاء مئات الأشخاص)، لم يتأخّر هذا التطور في التحوّل»خط توتر عالٍ" تَشابكتْ فيه السياسة بالطائفية والدستور.
وعلى وقع ارتفاع أصواتٍ تساءلتْ عن خلفيات اقتصار الادعاء على دياب والوزراء السابقين الثلاثة وعدم مساءلة رئيس الجمهورية ميشال عون الذي كان جاهَرَ بأنه عَلِم قبل 15 يوماً من الانفجار بأمر شحنة نيترات الأمونيوم، ومع رسْم خط أحمر سنياً حول مقام موقع رئاسة الحكومة، علِق التحقيق في «شبكة عنكبوت» الخصوصيات اللبنانية، لتُطرح علامات استفهام كبرى حول إذا كان سيتاح يوماً كشْف «علبة أسرار» شحنة الموت ومَن غطى إبقاءها في المرفأ وتهريب كميات منها وإلى أين، وخصوصاً أن دياب كشف قبل يومين أنّ «تقرير الـ»أف بي آي«اكد أن الكمية التي انفجرت هي 500 طن فقط»، وسط اتهامات سياسية من شخصيات لبنانية بأن النظام السوري استقدم هذه المواد لاستخدامها في البراميل المتفجّرة (الزعيم الدرزي وليد جنبلاط)، وبأن الحرس الثوري الإيراني أرسلها لمصلحة «حزب الله» (اللواء اشرف ريفي).
وابتداءً من 4 اغسطس شكّل «بيروتشيما» ما يشبه الناظم لمقاربة المجتمع الدولي الواقع اللبناني انطلاقاً من مبادرةٍ رسَمَ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون «أحرفها الأولى» منذ زيارته لبيروت في 6 اغسطس ثم في محطته الثانية في الأول من سبتمبر حيث شارك في إطفاء شمعة مئوية لبنان الكبير، حين حدّد - على وهج تكليف السفير مصطفى أديب (في 31 اغسطس) تشكيل حكومة جديدة بعد استقالة دياب (في 10 اغسطس) - خريطةً مُجَدْولة زمنياً لتفادي الاصطدام الكبير في قعر الحفرة المالية العميقة.
وسرعان ما اصطدم الإطارُ الواضح لمدّ لبنان بـ «جرعة الأوكسيجين» من الدعم المالي الذي حدّده ماكرون، بقوة الجذْب الاقليمية التي تتحكّم بالوضع اللبناني، وسط اقتناع «حزب الله» بأن الشروط التقنية للمجتمع الدولي لحكومة المَهمة الاصلاحية التي تتألف من وزراء اختصاصيين مستقلّين، ما هي إلا «خطوة سبّاقة» في سياق دينامية الضغط الأقصى الأميركية التي رفعتْ إدارة دونالد ترمب منسوبها ضدّ الحزب، على أن يكون «الهدف» الإصلاحي مدْخلاً (ولا سيما في ما خص ضبط المعابر الحدودية كافة) لتقزيم أدوار الحزب العابرة للحدود والحدّ من «تمكينه» سياسياً واقتصادياً في لبنان.
هو «إعصار الدمار»، الذي بات «الميزانَ» السياسي والأخلاقي الذي اعتمده الخارجُ لقياسِ منسوب حسّ المسؤولية لدى الأطراف الوازنين في الداخل وحقيقة إدراكهم أو اكتراثهم لترْك بلدهم بلا مظلات الأمان العربية - الدولية التقليدية التي لطالما شكّلت «واقي الصدمات» له في أحلك أزماته، عالقاً بين سُحُب حرائق المنطقة وبين حساباتٍ محلية - اقليمية تمرّ فوق أنقاض دولةٍ تقلّبتْ فوق مؤشراتٍ كارثية، في الفقر (تجاوزتْ نسبته 50 في المئة) والبؤس والتضخم (لبنان تجاوز زيمبابوي وحّل في المرتبة الثانية بعد فنزويلا في التضخم العالمي) والكآبة والفساد، واضعةً لبنان في جوار الدول الفاشلة و... «جمهوريات الموز».
وهذا ما يفسّر انطباعَ الـ 2020 بلغة ديبلوماسيةٍ «بلا قفازات» وتقريعٍ غير مسبوق للطبقة السياسية من سفراء وصفوا التمادي في المماطلة بتأليف حكومة المهمة الاصلاحية بأنه «يفوق الخيال» بعدما كان ماكرون نفسه اتهم في 27 سبتمبر غداة اعتذار أديب (بعد 26 يوماً من تكليفه) هذه الطبقة «التي يسيطر عليها الفساد» بـ «الخيانة الجماعية» ونكث تعهدات التزموا بها أمامه في بيروت.
هي اللهجةُ التأنيبية نفسها التي كان مقرّراً أن يطلقها الرئيس الفرنسي من بيروت في زيارته الثالثة (كان موعدها في 22 و23 ديسمبر) التي أطاحتْ بها إصابته بـ «كورونا»، بعدما أُحبطت المحاولة الثانية من مبادرته التي عاد «على حصانها» الحريري إلى رئاسة الحكومة مكلّفاً (في 22 اكتوبر) من فوق «لا» كبيرة بوجهه وغير مسبوقة أطلقها الرئيس عون وتقاطعتْ مع رغبةِ «حزب الله» في تهشيم الشقّ السياسي من مسعى باريس و«لبْننته» مع الشقّ الاقتصادي، بما عكَسَ القرار الكبير بإبقاء لبنان عربةً في قطار الصراع الاقليمي الذي ازدادت سرعة تدافُعه الخشن في 2020 وسط خشية متعاظمة من أن يدفع الوطن الصغير ثمن التسوية الكبرى أو الصِدام الكبير في منطقةٍ شهدت تطورات ما فوق استراتيجية قلبتْ المشهد الجيو - سياسي.
هي «بيروتشيما» عيْنها التي حضرتْ في جانبٍ من خلفياتِ ضغط واشنطن «على زناد» أول عقوبات بحق شخصيات سياسية لبنانية حليفة لـ «حزب الله»، بدءاً من الوزيريْن السابقيْن للمال والأشغال علي حسن خليل (المعاون السياسي للرئيس نبيه بري) ويوسف فنيانوس (من فريق سليمان فرنجية) وذلك في 8 سبتمبر (وفق قانون مكافحة الإرهاب) من ضمن ما بدا قراراً بـ «شدّ البراغي» أكثر في المسار «الزاجر» حيال «حزب الله».
وإذ حُمّلت هذه العقوبات مسؤولية إفشال مهمة أديب، جاء تاريخ 7 نوفمبر ليوجّه رسالة أميركية مدوّية في أكثر من اتجاه مع رمي «شِباك» قانون ماغنيتسكي وعقوباته على رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، الرجل الأقوى في الدائرة الأقرب إلى عون، في تطور كان متوقَّعاً ولكنه أحدث ما يشبه «الزلزالَ» الصامت في بيروت التي تعاملتْ مع هذا المعطى الذي اعتُبر تقويضاً لطموحات باسيل الرئاسية على أنه للضغط باتجاه حكومةٍ لبنانية تراعي «الخطوط الحمر» الدولية حيال أي نفوذ لحزب الله وحلفائه فيها.
هي العقوباتُ التي رُبطت في جانب منها بمفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل التي انطلقت في 14 اكتوبر بوساطة أميركية وبرعاية الأمم المتحدة وعُقدت منها 4 جولات في مقرّ «اليونيفيل» في الناقورة قبل أن تُعلَّق أواخر نوفمبر بطلبٍ أميركي جرى ربْطه بامتعاض واشنطن وتل ابيب من توسيع لبنان «رقعة التفاوض» خارج «خط هوف» (المبعوث الأميركي الأسبق فريدريك هوف) حين باغتَتْ بيروت الجانب الآخَر بخط ترسيم جديدٍ يعطيها 1430 كيلومتراً مربعاً إضافية على الـ 860 كيلومتراً التي كانت تُعتبر المنطقة المتنازَع عليها.
هو عام بمئة عام، شهد أيضاً حَدَثاً تاريخياً تمثّل بإصدار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في 18 اغسطس حُكْماً غيابياً بحق سليم جميل عياش (من حزب الله) بالسجن المؤبّد في التهم الخمسة التي دين بها في جريمة اغتيال الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري في العمل الإرهابي الذي وقع في 14 فبراير 2005، مع تبرئة 3 مُتَّهَمين آخَرين من الحزب لعدم «كفاية الأدلة».
... 2020، عامٌ بدا فيه لبنان كأنه يسير على الجَمْر حافي القدمين، تتقاذفه حسابات طبقة سياسية يريد «صاحب الإمرة» فيها تثبيت «عقاربِ الساعة» رغم «دومينو» الانهيارات «الشاملة» المتزامنة التي بدت معها قطاعاتُ البلاد برمّتها وكأنها تعرّضت لـ «لدغة عقرب قاتلة» بدأتْ مع إعلان حكومة دياب في 8 مارس قرارَ تعليق دفْع استحقاقات الديون السيادية وكان أوّلها إصدار يوروبوندز 9 مارس، وما شكّله هذا التخلف غير المنظّم عن السداد من تحوّل تاريخي في سجلّ «بلاد الأرز» لم يتوان كثيرون عن اعتباره من ضمن مرحلة تأسيسيةٍ تكتمل معها مقوّمات «الجمهورية الثالثة» التي توالى «حفْر أساساتها» في الأعوام الـ 15 الأخيرة عبر مشاريع غلَبة سياسية وأمنية وعسكرية وصولاً إلى الاقتصادية.
وجاءت تطورات الأشهر اللاحقة لتعزّز هذا الانطباع مع سلوكيات مريبة ومرتبكة أُفشل معها مسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي على حزمة إنقاذ مربوطةٍ بإصلاحاتٍ وخطة مالية ضاعتْ أرقامها (حول الخسائر في القطاع المصرفي) بين الحكومة والبرلمان، تماماً كما أُغرقت بعدها عملية التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان بإشكاليات قانونية تم تفكيكها نظرياً في البرلمان أخيراً لتبقى العبرة في التنفيذ الذي يشترطه المجتمع الدولي كمدخلٍ لرمي طوق النجاة للبنان الذي وجد نفسه فجأة «يدفن» معادلةَ «يهتزّ وممنوع أن يقع» التي ركن إليها مسؤولوه طويلاً، فإذ به يصارع «عاصفة كاملة» لم يشهدها أي بلد في العالم. وقد برزتْ أعتى موجاتها مع انسحاقِ الليرة أمام الدولار وصولاً إلى تسجيل سعر الصرف في يوليو نحو 10 آلاف ليرة لكل دولار (حالياً يناهز 8400)، وسط تقديرات تتوقع الأسوأ ما لم تولد حكومة بالمواصفات القابلة للتسويق خارجياً، ولا سيما في ظلّ «رياح سبّاقة» تشي بـ «ثورة بطون خاوية» يختزنها الشارع الذي انتفض في 17 أكتوبر 2019 وأطاح بحكومة الحريري وتذبذب حراكُه في 2020 ولكنه قد «ينفجر» في أي لحظة رغم المخاطر العالية لوباء «كورونا» الذي يمْضي في «اجتياحه» منذ تسجيل أول حالة في 21 فبراير استجرّت حتى اليوم نحو 180 ألف إصابة (تراكمياً) وأكثر من 1450 وفاة.
... 2020 عامٌ بدأ في 21 يناير بولادة ما وُصف بأنه «حكومة الأقْنعة» برئاسة دياب التي كرّست عزلة لبنان العربية والدولية بعدما تعاطى معها الخارج على أنها «حكومة حزب الله»، وها هو ينتهي بتصريف أعمالٍ يُخشى أن يطول أكثر من عمر الحكومة نفسها، وسط عبارةٍ مفتاح تختصر الواقع اللبناني، أمس واليوم وغداً، أطلقها وزير الخارجية الفرنسي جان - ايف لودريان أخيراً وقال فيها «الانهيارُ السياسي والاقتصادي في لبنان يشبه غرق سفينة»تايتانيك«لكن من دون موسيقى.... لبنان هو»تايتانيك«من دون الاوركسترا... اللبنانيون في حال إنكار تام وهم يَغْرقون، ولا توجد حتى الموسيقى».
وهذه الصورة البالغة التعبير عن الواقع «التراجيدي» الذي بلغتْه «بلاد الأرز» بدتْ أقرب إلى «مَراسم وداع» لبنان الذي كان، من دون أن يُعرف بعد أي لبنان... سيكون.