خبرٌ صادِم استيقظ على وقْعه اللبنانيون أخيراً.. رفْعٌ مرتقبٌ للدعم عن الطحين المخصّص لكل أنواع المعجنات والحلويات، ما يعني أن المنقوشة التي كانت عماد الفطور اللبناني ولقمة الفقير كما الغنيّ سيزداد سعرها أضعافاً، الأمر الذي يحرم فئات كبيرة من اللبنانيين منها، هي التي باتت "منقوشةً" في ذكرياتِ طفولتهم وبقيت رفيقة صبحياتهم في أحلك ظروفهم الأمنية والاقتصادية.
ولو أن قرارَ لحاقِ "المنقوشة" بركْب "السوق السواء" لسعر الدولار بدا أنه عُلِّق أو جرى التراجُع عنه بحسب ما كشف رئيس الاتحاد العمالي العام في لبنان بشارة الأسمر في معرض إعلان إلغاء إضرابٍ عام كان مقرراً الأسبوع الماضي اعتراضاً على انطلاق "قطار" ترشيد دعم السلع الاستراتيجية أو وقْفه مؤكداً "أوصلت المشاورات لعدم رفع الدعم عن الطحين ومشتقاته، فسعر الرّغيف لا يمسّ، وسعر المنقوشة يراوح مكانه"، فإنّ "الهبّةَ" الاعتراضية على أي لعب بسعر المنقوشة شكلتْ مرآةً لواقع حال اللبنانيين في زمن الانهيار المالي الذي قَلَبَ حياتهم رأساً على عقب، بعدما وجدوا أنفسهم مضطرين للتخلي عن الكثير من مقومات الحياة الكريمة وأنماط العيش التي عرفوها سابقاً وقطْع العلاقة مع أصناف حياتية ألفوها في يومياتهم التي باتت مسكونة بالكوابيس.
نغمة رفع الدعم عن غالبية أصناف السلّة الغذائية، من ضمن استراتيجيةٍ لإطالة عُمْر بقايا الدولارات (لا تتجاوز 800 مليون دولار) التي ما زال بإمكان المصرف المركزي استخدامها لتمويل استيراد المواد الاستراتيجية، وقعتْ كالصاعقة على رؤوس اللبنانيين وعزّزت المخاوف على أمنهم الغذائي. فالمواطن الذي كان، مع بدء أزمة "تحليق" سعر صرف الدولار، بدأ بشدّ الأحزمة وصار يكتفي بالضروري من السلع فقط، يجد نفسه مع تطبيق سياسة رفْع الدعم وحتى ترشيده مخنوقاً عاجزاً عن تأمين متطلّباته الأساسية، إما لأنه غير قادر على دفع ثمنها أو لأنها راحت تغيب عن الأسواق وباتت في مصاف السلع النادرة.
سلع تغيب عن يوميات اللبناني
كثيرة هي السلع التي أحدث غيابها خضة في حياة اللبنانيين لأنهم تعوّدوا عليها وباتت جزءاً من حياتهم اليومية كالهواء الذي يتنفسونه. أسماء تجارية تغيب اليوم عن الأسواق اللبنانية، قد يكون لها بدائل، لكن البديل لا يحل أبداً محل الأصيل.
قد تتشابه الأسماء والأسعار والنكهات، لكن "عِشرة العمر" مع الأصناف التي ألفوها لا تهون عليهم ويصعب أن يضحوا بها من أجل منتجات مجهولة الهوية لا يُعرف لها أصل ولا فصل. "النسكافيه" مثلاً الاسم المرادف لقهوة الصباح ومعه الـcoffe ـ mate وما يُشتقّ عنهما من أصناف، أحدث خبر غيابها عن السوق اللبنانية صدمة وبلبلة كبيرة، وأحس اللبناني نفسه مطعوناً في الظهر، وبأن الخناق يشتد عليه، وبدأ يجول المتاجر الكبرى ودكاكين الأحياء الصغيرة بحثاً عن بقايا هذه السلع علّه يجد علبة منسية هنا أو كيسا لم تطله يد مستهلك هناك، حتى ولو اضطر الى حرمان نفسه أشياء أخرى للحصول عليها. واستمرّ الذعر من فقدان هذه الأصناف يرافق اللبناني الى أن أصدرت شركة "نستله" بياناً أوضحت فيه ان الشركة ستستمر بتقديم منتجاتها في لبنان بأسعار مدروسة، وان البلبلة التي حصلت كانت نتيجة التخزين من المستهلكين الذي يسبق دائماً فترات الحجر، وأيضاً بسبب تأخر التسليم الناتج عن إعادة توجيه الشحنات بعد انفجار مرفأ بيروت، فضلاً عن الوضع الاقتصادي السائد والتحديات الإدارية العامة في لبنان.
الصنوبر أغلى من الحد الأدنى للأجور
وهكذا يكون "قطوع" القهوة قد مرّ بخير على اللبنانيين وإن لم يهضموا أسعاره الجديدة بعد. لكن "كمائن" كثيرة ما زالت تتربص بهم مع كل طلعة صباح أو كل دخول الى السوبرماركت ليتفاجأوا بأسعار خيالية لسلع كانت من ضمن "طقوسهم" اليومية وباتوا مجبرين رغم أنوفهم على التخلي عنها. فكيلوغرام واحد مثلاً من الصنوبر الذي يزيّن الأكلات اللبنانية التقليدية كالكبة واللحم بعجين والأرز بالدجاج صار سعره اليوم 600000 ليرة لبنانية أي ما يقارب الحد الأدنى للأجور (675 الف ليرة) الذي انخفضت قيمته نحو 80 بالمئة ولم يعد يساوي أكثر من 80 دولاراً (على سعر 8400 ليرة للدولار الواحد).
وكان سعر كيلوغرام الليمون الحامض قد وصل الى عتبات غير مسبوقة أو مبرَّرة وتجاوز 10000 ليرة ما دعا الكثيرات من ربات البيوت الى استبداله بحمض الستريك وغيره من المواد الكيميائية التي تعطي الطعم نفسه إنما مع أضرار لا تحصى على الصحة. وتطول لائحة الأصناف التي باتت خارج قدرة اللبناني وانعكست أسعارها الخيالية على كل نواحي حياته فحرمت أبناؤه من أصناف السكاكر وأنواع الشوكولا التي اعتادوا تناولها في فسحة المدرسة ومع الأصدقاء كما جعلتْ لأعياد آخِر السنة طعماً مُراً في ظل تراجُع القدرة على شراء متطلباتها من أصناف الضيافات والحلويات التقليدية ناهيك عن الهدايا وخصوصاً للأطفال. وقد تناول الإعلامي مارسيل غانم في برنامج "صار الوقت" سعر الكيلوغرام الواحد من شوكولا الأعياد الذي تجاوز 250000 ليرة أي نحو نصف الحدّ الأدنى تقريباً مطالباً وزير الاقتصاد بإجابات عن أسباب هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار.
إعادة التدوير شعار المرحلة
كل معيشة اللبناني تغيّرتْ. وهو الذي كان يتميّز باقتناء الكماليات صار اليوم يقتصد حتى في الأساسيات. وكثيرة هي القصص التي ترويها ربات البيوت عن إعادة تدوير كل فضلات الثلاجة تجنّباً لرميها وعن سعيهن اليومي لتأمين طبَق العائلة اليومي بأقل كلفة ممكنة. ولا تختلف في ذلك عائلة محتاجة عن عائلة ميسورة فالفأس قد وقعت في رأس الجميع، ومَن لا يزال قادراً على اقتناء السلع الفاخرة فإنه لا يجدها بسهولة في الأسواق ولم يعد باستطاعته اقتناء الكميات ذاتها التي كان يستهلكها سابقاً.
ورغم انقلاب حياته رأساً على عقب لا يزال اللبناني قادراً على الضحك والسخرية من وضعه ... قد تكون ضحكة صفراء لكنها تحبك المأساة نكاتاً يومية. فالمنقوشة صارت أغلى من السوشي، و قد تُرَصِّعُ بها بعض دور المجوهرات تصاميمها الذهبية أو قد تطلب الأمهات مهراً لبناتهن كيلو صنوبر أو عبوات نسكافيه مختومة، وإذا هجم النصيب فصاحبه يجب أن يملك فرن مناقيش أو بسطة حامض. أما المحظوظ بالحصول على أكثر من علبة دواء للضغط، فعليه أن يحفظها في الخزنة حرصاً على سلامتها وسلامته، فيما مَن يودّ شراء زجاجة عطر عليه التقدم بطلب استرحام من المصرف أو تقاسُم سعرها مع الأصدقاء...
وعلى هامش هذا الانقلاب ازدهرت أعمال كثيرة كان اللبناني قد نسيها أو لم يكن ليرضى بها، كما ازدهر سوق الغش والتقليد. صفحات بيع الملابس المستعمَلة ملأت مواقع التواصل وبات الشبان والشابات يتهافتون عليها لشراء ماركات ملابس تعوّدوا عليها ورحلت عن لبنان أو لبيع قطع قديمة يملكونها والاستفادة من سعرها. فرحيل بعض الماركات العالمية ترك أثَره في المولات وعلى الزبائن الذين وجدوا في المستعمَل الحل، لكنه حلّ لا يرضي الجميع، وبعضهم يفضّل استعمال قديم خزانته على أن يمدّ يده الى خزائن الآخرين. وعادت الى الواجهة حرف منسية كالخياط و الـ "كنْدرجي" أو مُصْلِح الأحذية ومنجّد الفرش لأن الكل باتوا يحرصون على تجديد قديمهم والحفاظ عليه لأنه وحده الدائم في هذا الظرف العصيب، وصارت إعادة التدوير شعار المرحلة.
بين الأصيل والبديل هدايا المغتربين هي الحلّ
الغش ازدهر سوقه مع تراجع الأسواق البيروتية الأصيلة فباتت البضائع المقلّدة والأسماء المنحولة تملأ المحلات. وفرختَ في الأزقة والأحياء المحلات التي تبيع المنظّفات على أنواعها من أدوية للجلي والغسيل وأدوية للتعقيم بأسعار زهيدة نسبة الى مثيلاتها من السلع المباعة في السوبرماركات. وتهافتت النساء على شرائها ليتبيّن فيما بعد أن الكمية الكبرى من مكوناتها هي ملح يذوب ما إن يلامس الماء ليؤذي الأيدي والغسالات والملابس على حد سواء، أو مواد ملوّنة لا دخل لها بالتعقيم أو التنظيف. وغالباً ما تسعى دائرة حماية المستهلك والجمارك وغيرها من الأجهزة المختصة لمكافحة هذه الآفة ومَن يتعاملون بهذه المواد.
وإلى جانب الغش الذي يتصيّد المواطن تحت شعار الرخص، برزت أسماء تجارية كثيرة لم يسمع بها اللبناني سابقاً ولا يعرف عن نوعيتها شيئاً، لكن الحاجة أَعْوَزَتْه إليها ووجد نفسه مضطراً لشرائها كبديل عن الأغلى منها.
وبين أسعار الدواء التي يمكن أن تتضاعف بعض أصنافها بعد رفع الدعم عنه كلياً أو الى مستوى سعر المنصة الالكترونية (3900 ليرة)، وأقساط الجامعات التي بدأ بعضها (2 حتى اليوم) يعتمد على سعر "المنصة" ما يعني ارتفاع أرقامها بشكل مخيف يقسم ظهور أولياء الطلاب، وبين اختفاء الكثير من المواد الاستهلاكية عن الرفوف والتلويح برفْع سعر المحروقات ما لم توصل المفاوضات مع العراق (للحصول على النفط الخام) إلى خواتيم سعيدة، صارت حياة اللبناني تتخبّط في بحر من الأنواء لا يعرف فيه من أين تأتيه الضربات.
وحتى لا تكون الصورة سودوية بالمطلق، ابتكر أهل لبنان طريقة جديدة للاستمتاع بتلك الأشياء الصغيرة التي اعتادوا التمتع بها، فكان طلبهم الأوحد للمغتربين العائدين الى الوطن في أعياد آخِر السنة، الى جانب التمني بالعودة السالمة، أن يحملوا معهم الى الأهل في الوطن ما لذّ وطاب وكان شهيّ الرائحة من هدايا بات العثور عليها في السوق أو توافر القدرة على شرائها "حلماً" للكثيرين.
ولو أن قرارَ لحاقِ "المنقوشة" بركْب "السوق السواء" لسعر الدولار بدا أنه عُلِّق أو جرى التراجُع عنه بحسب ما كشف رئيس الاتحاد العمالي العام في لبنان بشارة الأسمر في معرض إعلان إلغاء إضرابٍ عام كان مقرراً الأسبوع الماضي اعتراضاً على انطلاق "قطار" ترشيد دعم السلع الاستراتيجية أو وقْفه مؤكداً "أوصلت المشاورات لعدم رفع الدعم عن الطحين ومشتقاته، فسعر الرّغيف لا يمسّ، وسعر المنقوشة يراوح مكانه"، فإنّ "الهبّةَ" الاعتراضية على أي لعب بسعر المنقوشة شكلتْ مرآةً لواقع حال اللبنانيين في زمن الانهيار المالي الذي قَلَبَ حياتهم رأساً على عقب، بعدما وجدوا أنفسهم مضطرين للتخلي عن الكثير من مقومات الحياة الكريمة وأنماط العيش التي عرفوها سابقاً وقطْع العلاقة مع أصناف حياتية ألفوها في يومياتهم التي باتت مسكونة بالكوابيس.
نغمة رفع الدعم عن غالبية أصناف السلّة الغذائية، من ضمن استراتيجيةٍ لإطالة عُمْر بقايا الدولارات (لا تتجاوز 800 مليون دولار) التي ما زال بإمكان المصرف المركزي استخدامها لتمويل استيراد المواد الاستراتيجية، وقعتْ كالصاعقة على رؤوس اللبنانيين وعزّزت المخاوف على أمنهم الغذائي. فالمواطن الذي كان، مع بدء أزمة "تحليق" سعر صرف الدولار، بدأ بشدّ الأحزمة وصار يكتفي بالضروري من السلع فقط، يجد نفسه مع تطبيق سياسة رفْع الدعم وحتى ترشيده مخنوقاً عاجزاً عن تأمين متطلّباته الأساسية، إما لأنه غير قادر على دفع ثمنها أو لأنها راحت تغيب عن الأسواق وباتت في مصاف السلع النادرة.
سلع تغيب عن يوميات اللبناني
كثيرة هي السلع التي أحدث غيابها خضة في حياة اللبنانيين لأنهم تعوّدوا عليها وباتت جزءاً من حياتهم اليومية كالهواء الذي يتنفسونه. أسماء تجارية تغيب اليوم عن الأسواق اللبنانية، قد يكون لها بدائل، لكن البديل لا يحل أبداً محل الأصيل.
قد تتشابه الأسماء والأسعار والنكهات، لكن "عِشرة العمر" مع الأصناف التي ألفوها لا تهون عليهم ويصعب أن يضحوا بها من أجل منتجات مجهولة الهوية لا يُعرف لها أصل ولا فصل. "النسكافيه" مثلاً الاسم المرادف لقهوة الصباح ومعه الـcoffe ـ mate وما يُشتقّ عنهما من أصناف، أحدث خبر غيابها عن السوق اللبنانية صدمة وبلبلة كبيرة، وأحس اللبناني نفسه مطعوناً في الظهر، وبأن الخناق يشتد عليه، وبدأ يجول المتاجر الكبرى ودكاكين الأحياء الصغيرة بحثاً عن بقايا هذه السلع علّه يجد علبة منسية هنا أو كيسا لم تطله يد مستهلك هناك، حتى ولو اضطر الى حرمان نفسه أشياء أخرى للحصول عليها. واستمرّ الذعر من فقدان هذه الأصناف يرافق اللبناني الى أن أصدرت شركة "نستله" بياناً أوضحت فيه ان الشركة ستستمر بتقديم منتجاتها في لبنان بأسعار مدروسة، وان البلبلة التي حصلت كانت نتيجة التخزين من المستهلكين الذي يسبق دائماً فترات الحجر، وأيضاً بسبب تأخر التسليم الناتج عن إعادة توجيه الشحنات بعد انفجار مرفأ بيروت، فضلاً عن الوضع الاقتصادي السائد والتحديات الإدارية العامة في لبنان.
الصنوبر أغلى من الحد الأدنى للأجور
وهكذا يكون "قطوع" القهوة قد مرّ بخير على اللبنانيين وإن لم يهضموا أسعاره الجديدة بعد. لكن "كمائن" كثيرة ما زالت تتربص بهم مع كل طلعة صباح أو كل دخول الى السوبرماركت ليتفاجأوا بأسعار خيالية لسلع كانت من ضمن "طقوسهم" اليومية وباتوا مجبرين رغم أنوفهم على التخلي عنها. فكيلوغرام واحد مثلاً من الصنوبر الذي يزيّن الأكلات اللبنانية التقليدية كالكبة واللحم بعجين والأرز بالدجاج صار سعره اليوم 600000 ليرة لبنانية أي ما يقارب الحد الأدنى للأجور (675 الف ليرة) الذي انخفضت قيمته نحو 80 بالمئة ولم يعد يساوي أكثر من 80 دولاراً (على سعر 8400 ليرة للدولار الواحد).
وكان سعر كيلوغرام الليمون الحامض قد وصل الى عتبات غير مسبوقة أو مبرَّرة وتجاوز 10000 ليرة ما دعا الكثيرات من ربات البيوت الى استبداله بحمض الستريك وغيره من المواد الكيميائية التي تعطي الطعم نفسه إنما مع أضرار لا تحصى على الصحة. وتطول لائحة الأصناف التي باتت خارج قدرة اللبناني وانعكست أسعارها الخيالية على كل نواحي حياته فحرمت أبناؤه من أصناف السكاكر وأنواع الشوكولا التي اعتادوا تناولها في فسحة المدرسة ومع الأصدقاء كما جعلتْ لأعياد آخِر السنة طعماً مُراً في ظل تراجُع القدرة على شراء متطلباتها من أصناف الضيافات والحلويات التقليدية ناهيك عن الهدايا وخصوصاً للأطفال. وقد تناول الإعلامي مارسيل غانم في برنامج "صار الوقت" سعر الكيلوغرام الواحد من شوكولا الأعياد الذي تجاوز 250000 ليرة أي نحو نصف الحدّ الأدنى تقريباً مطالباً وزير الاقتصاد بإجابات عن أسباب هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار.
إعادة التدوير شعار المرحلة
كل معيشة اللبناني تغيّرتْ. وهو الذي كان يتميّز باقتناء الكماليات صار اليوم يقتصد حتى في الأساسيات. وكثيرة هي القصص التي ترويها ربات البيوت عن إعادة تدوير كل فضلات الثلاجة تجنّباً لرميها وعن سعيهن اليومي لتأمين طبَق العائلة اليومي بأقل كلفة ممكنة. ولا تختلف في ذلك عائلة محتاجة عن عائلة ميسورة فالفأس قد وقعت في رأس الجميع، ومَن لا يزال قادراً على اقتناء السلع الفاخرة فإنه لا يجدها بسهولة في الأسواق ولم يعد باستطاعته اقتناء الكميات ذاتها التي كان يستهلكها سابقاً.
ورغم انقلاب حياته رأساً على عقب لا يزال اللبناني قادراً على الضحك والسخرية من وضعه ... قد تكون ضحكة صفراء لكنها تحبك المأساة نكاتاً يومية. فالمنقوشة صارت أغلى من السوشي، و قد تُرَصِّعُ بها بعض دور المجوهرات تصاميمها الذهبية أو قد تطلب الأمهات مهراً لبناتهن كيلو صنوبر أو عبوات نسكافيه مختومة، وإذا هجم النصيب فصاحبه يجب أن يملك فرن مناقيش أو بسطة حامض. أما المحظوظ بالحصول على أكثر من علبة دواء للضغط، فعليه أن يحفظها في الخزنة حرصاً على سلامتها وسلامته، فيما مَن يودّ شراء زجاجة عطر عليه التقدم بطلب استرحام من المصرف أو تقاسُم سعرها مع الأصدقاء...
وعلى هامش هذا الانقلاب ازدهرت أعمال كثيرة كان اللبناني قد نسيها أو لم يكن ليرضى بها، كما ازدهر سوق الغش والتقليد. صفحات بيع الملابس المستعمَلة ملأت مواقع التواصل وبات الشبان والشابات يتهافتون عليها لشراء ماركات ملابس تعوّدوا عليها ورحلت عن لبنان أو لبيع قطع قديمة يملكونها والاستفادة من سعرها. فرحيل بعض الماركات العالمية ترك أثَره في المولات وعلى الزبائن الذين وجدوا في المستعمَل الحل، لكنه حلّ لا يرضي الجميع، وبعضهم يفضّل استعمال قديم خزانته على أن يمدّ يده الى خزائن الآخرين. وعادت الى الواجهة حرف منسية كالخياط و الـ "كنْدرجي" أو مُصْلِح الأحذية ومنجّد الفرش لأن الكل باتوا يحرصون على تجديد قديمهم والحفاظ عليه لأنه وحده الدائم في هذا الظرف العصيب، وصارت إعادة التدوير شعار المرحلة.
بين الأصيل والبديل هدايا المغتربين هي الحلّ
الغش ازدهر سوقه مع تراجع الأسواق البيروتية الأصيلة فباتت البضائع المقلّدة والأسماء المنحولة تملأ المحلات. وفرختَ في الأزقة والأحياء المحلات التي تبيع المنظّفات على أنواعها من أدوية للجلي والغسيل وأدوية للتعقيم بأسعار زهيدة نسبة الى مثيلاتها من السلع المباعة في السوبرماركات. وتهافتت النساء على شرائها ليتبيّن فيما بعد أن الكمية الكبرى من مكوناتها هي ملح يذوب ما إن يلامس الماء ليؤذي الأيدي والغسالات والملابس على حد سواء، أو مواد ملوّنة لا دخل لها بالتعقيم أو التنظيف. وغالباً ما تسعى دائرة حماية المستهلك والجمارك وغيرها من الأجهزة المختصة لمكافحة هذه الآفة ومَن يتعاملون بهذه المواد.
وإلى جانب الغش الذي يتصيّد المواطن تحت شعار الرخص، برزت أسماء تجارية كثيرة لم يسمع بها اللبناني سابقاً ولا يعرف عن نوعيتها شيئاً، لكن الحاجة أَعْوَزَتْه إليها ووجد نفسه مضطراً لشرائها كبديل عن الأغلى منها.
وبين أسعار الدواء التي يمكن أن تتضاعف بعض أصنافها بعد رفع الدعم عنه كلياً أو الى مستوى سعر المنصة الالكترونية (3900 ليرة)، وأقساط الجامعات التي بدأ بعضها (2 حتى اليوم) يعتمد على سعر "المنصة" ما يعني ارتفاع أرقامها بشكل مخيف يقسم ظهور أولياء الطلاب، وبين اختفاء الكثير من المواد الاستهلاكية عن الرفوف والتلويح برفْع سعر المحروقات ما لم توصل المفاوضات مع العراق (للحصول على النفط الخام) إلى خواتيم سعيدة، صارت حياة اللبناني تتخبّط في بحر من الأنواء لا يعرف فيه من أين تأتيه الضربات.
وحتى لا تكون الصورة سودوية بالمطلق، ابتكر أهل لبنان طريقة جديدة للاستمتاع بتلك الأشياء الصغيرة التي اعتادوا التمتع بها، فكان طلبهم الأوحد للمغتربين العائدين الى الوطن في أعياد آخِر السنة، الى جانب التمني بالعودة السالمة، أن يحملوا معهم الى الأهل في الوطن ما لذّ وطاب وكان شهيّ الرائحة من هدايا بات العثور عليها في السوق أو توافر القدرة على شرائها "حلماً" للكثيرين.