كانت رؤية المشرع الكويتي طموحةً جداً إزاء الحوكمة، منذ عام 2010، حين أقرَّ مجلس الأمة قانون هيئة أسواق المال، وأصدرت الهيئة بعدها قواعد الحوكمة القديمة عام 2013 بمنهجية الإلزام.

لقد ظهرت قواعد الحوكمة القديمة بشكلٍ صارمٍ فوريٍّ، وكأنَّها مفروضة على شركاتٍ خبيرةٍ بهذا العلم الإداري الحديث، وأنَّ العمل فيها يتمتَّع بالشفافية، بعيداً كل البعد عن الفساد واستغلال المراكز الإدارية.

لكن تطبيق الحوكمة كشف عن عدم انتشار هذه الثقافة بالشكل الكافي لتطبيق القانون، وأنَّ على الهيئة اعتماد نهجٍ أكثر مرونة في تطبيق قواعد الحوكمة.

استوعبت هيئة أسواق المال كل هذه الظروف، وأصدرت عام 2015 اللائحة التنفيذية الجديدة لقانون 7 /2010، وأصبحت قواعد الحوكمة فيها نافذةً، اعتباراً من تاريخ 30 يونيو 2016.

وتضمَّنت اللائحة الكتاب رقم 15 «حوكمة الشركات»، اعتماداً على مبدأ «الالتزام أو التفسير» «Comply or Explain» (م/1-1 كتاب 15).

يعني هذا المبدأ فرض صفة الإلزام على بعض قواعد الحوكمة (الالتزام)، وإتاحة مخالفة البعض الآخر من هذه القواعد، بعد تقديم تفسيرٍ مُقنعٍ لسبب المخالفة (التفسير). وهو مبدأٌ بريطانيُّ المنشأ يعتمد المرونة في تطبيق القانون، مع ضرورة توفُّر الوعي والنشاط لدى المساهمين في الشركة، بغرض اكتشاف المخالفات، بعد تخفيف الإجراءات الإلزامية.

لا يعني إتاحة المخالفة مرفقةً بـ: «التفسير»، أنَّ الهيئة قد رجعتْ خطوةً للوراء إزاء تطبيق معايير الحوكمة؛ بقدر قيامها بتكييف القواعد على أرض الواقع، وخرجتْ بأفضل ما يمكن تطبيقه منها في ظلِّ الظروف.

ولكن هل يتناسب وعي المساهمين في الكويت مع هذا المبدأ؟ وهل شمل الإطار غير الملزم هذا قواعد جوهريةً للحوكمة؟

لقد فرضت الهيئة صفة الإلزام على القواعد التالية، تحت طائلة إقامة المسؤولية وفرض العقوبات التأديبية (م/1-2 كتاب 15):

استقلالية أعضاء مجلس الإدارة.

نزاهة التقارير المالية.

إدارة المخاطر والرقابة الداخلية.

الإفصاح والشفافية.

احترام حقوق المساهمين.

بينما تركت الهيئة القواعد التالية غير ملزمة، خاضعة لمبدأ الالتزام أو التفسير، وهي (م/1-1 كتاب 15):

التحديد السليم للمهام والمسؤوليات.

كفاءة أعضاء مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية.

السلوك المهني والقيم الأخلاقية.

دور أصحاب المصالح.

تعزيز وتحسين الأداء.

المسؤولية الاجتماعية.

المتطلبات الرقابية.

وإذا تعمَّقنا في القواعد غير الملزمة، وجدناها هي الجوهر الحقيقي لحوكمة الشركات؛ فهي التي تضمن الهيكل المنضبط للصلاحيات، والمهام والمساءلة والرقابة داخل الشركة، مهنياً وأخلاقياً، وهي التي تردع عمل أصحاب المصالح، عن استغلال مراكزهم الإدارية، وتدعم موقف الشركة من المجتمع، وترتقي بالأداء والرقابة.

فإن سمحنا للشركات المساهمة، بالقيام بمخالفة كلِّ هذه القواعد، فماذا بقي من معنى الحوكمة؟ بالتأكيد لا يمكن بخصوص هذه القواعد الجوهرية، الاعتماد على وعي ونشاط المساهمين.

إذاً كيف سيكون تأثير ذلك على بورصة الكويت، التي تعاني من انخفاض متتالٍ في السيولة، وأحجام التداول في السنوات الأخيرة؟

الحقيقة أنَّ هيئة أسواق المال تقوم بدورٍ مهمّ في التقدير، فهي لا تسمح بالمخالفة الجسيمة لقواعد الحوكمة، بل إنَّها تُشرف على الشركات المساهمة في هذا الإطار، ولا تأخذ إلاَّ بتفسيراتٍ مقنعةٍ للمخالفات البسيطة. وإنَّ المُتابِعَ لقرارات الهيئة وعقوباتها، سيكتشف صرامتها وعدم اقتناعها من دون أسبابٍ موجبةٍ.

لكن، على الرغم من جودة أداء الهيئة، إلاَّ أنَّ الاعتماد على تقدير هيئة حكوميةٍ إداريةٍ، في تطبيق نظامٍ جوهريٍّ، لتوازن أسواق المال واقتصاد الدولة، مثل نظام الحوكمة، لا يعكس صورةً إيجابيةً عن حوكمة الشركات في الكويت. فماذا لو أخطأت الهيئة التقدير؟ هل تُصبح حوكمة الشركات حبراً على ورق؟!

وبالنتيجة، إذا أردنا استقراء كل التفاصيل السابقة، والخروج منها بنتيجةٍ واحدةٍ، سنرى بأنَّ الثغرة الكبرى في قواعد الحوكمة، هي عدم فرض وجود لجنة الحوكمة على الشركات المساهمة.

حيث نُشاهِدُ بعضاً من كبريات الشركات المساهمة الكويتية، خاليةً من لجنة الحوكمة، رغم وجود لجانٍ خاصَّةٍ بالتدقيق والمخاطر والمكافآت، فمَن سيقوم بالمشاهدات الواقعية لهذه اللجان وتعديل أنظمة الشركة ولوائحها الداخلية، حتى تصبح أكثر انضباطاً وفق معايير الحوكمة؟ إنَّها لجنة الحوكمة.

بالتالي، فإنَّ لجنة الحوكمة هي التي تقوم بعمل تجهيز الشركة المساهمة، حتى تكون قادرةً على الوفاء بمتطلَّبات جميع قواعد الحوكمة الجوهرية عليها، وهي غير مذكورة في كتاب الحوكمة، وحتى أنَّ قاعدة تشكيل اللجان المنبثقة عن مجلس الإدارة ليست إلزاميةً، حيث إنَّ الإلزام طال المادة 2-3، وهي خاصة باستقلالية أعضاء مجلس الإدارة فقط (م/1-2 كتاب 15).

وفي الحقيقة، لا يتعارض وجود لجنة الحوكمة، مع اعتماد مبدأ الالتزام أو التفسير، بل على العكس إنَّ هذه اللجنة تساعد الشركة على الالتزام الذاتي بقواعد الحوكمة، وتزيد من ثقافة المساهمين خلال الجمعيات العامة، الأمر الذي يساهم في الارتقاء بالتنظيم الذاتي، ويجعل عمل الهيئة أكثر مرونةً ويدفعها للقناعة بتفسيرات الشركة لمخالفاتها غير الجوهرية.

لقد أصبح الوجود الإلزامي لهذه اللجنة، ومتابعة عملها ونشاطها من الهيئة، أمراً ضرورياً في الكويت، وإلاَّ سيبقى الارتقاء بتطبيق حوكمة الشركات بين الحبر والورق!