من المؤكد أن جميعنا قد سمعنا وقرأنا تلك القصيدة الرثائية المشهورة لشاعر العصر العباسي أبو العتاهية التي يُنشد في مطلعها مُتحسِّراً و«مُتحسِّفاً» على زوال شبابه: «بَكيتُ عَلى الشَبابِ بِدَمعِ عَيني، فَلَم يُغنِ البُكاءُ وَلا النَحيبُ»،...
ثم يختتمها بأُمنية بدت في نظره – ونظرنا – مستحيلة المنال، قائلاً: «فَيا لَـيتَ الشَبابَ يَعـودُ يَـوماً، فَأُخـبِـرُهُ بِما صَــنَعَ المَـشيـبُ».
لكن بعد مرور أكثر من 600 سنة على تلك الحسرة و«الحَسافة» الشعرية، اكتشف العلم الحديث أخيراً أن تلك الأمنية التي تمناها أبو العتاهية ليست مستحيلة التحقيق على أرض الواقع العلمي، وهو الأمر يعني أنه لو عاد أبو العتاهية إلى الحياة في عصرنا الراهن لأصبح ممكناً له أن «يعود شبابه» إليه قريباً... ولأمكنه أن «يُخبِره بِما صَنَعَ المَشيبُ»!!! ففي اختراق بحثي يمهد الطريق أمام إطلاق ثورة طبية غير مسبوقة تُبشِّر بأنه قد تتحقق لنا قريباً الأمنية التي تمناها أبو العتاهية لنفسه، أعلن علماء أميركيون في معهد بحثي متخصص تابع لكلية هارفارد للطب أنهم قد نجحوا مختبرياً في «تحريك عقارب ساعة الشيخوخة إلى الوراء» في خلايا شبكية وقرنية العين واسترجاع البصر المفقود بسبب التقدُّم في السن لدى حيوانات تجارب.
مجلة «نيتشر» (Nature) العلمية المتخصصة نشرت تفاصيل ونتائج ذلك الاكتشاف العلمي في عددها الحالي، وفي حلقة اليوم يسلِّط «نبض العافية» الضوء على ذلك الاختراق البحثي المثير للاهتمام....
نظرة عامة
الدراسة الرائدة أجريت تحت إشراف وقيادة البروفيسور ديفيد سينكلير أستاذ علم المورثات الجينية بمعهد «بلافاتنيك» التابع لكلية هارفارد للطب، كما أنه كان من المشاركين في تأسيس مركز «بول ف. فلين» لأبحاث الشيخوخة التابع للكلية ذاتها.
ووفقا لخبراء متخصصين، يمكن القول إن ما تتميز به الاكتشافات التي أسفرت عنها هذه الدراسة البحثية الأولى من نوعها هو أنها «قدمت أول دليل علمي يثبت عملياً أنه من الممكن مبدئياً تجديد واستعادة شباب الخلايا والأنسجة بأمان من خلال إعادة برمجتها، وبالأخص خلايا وأنسجة أعصاب العين».
فإلى جانب إعادة ضبط عقارب ساعة شيخوخة خلايا شبكية العين وجعلها تتحرك إلى الوراء لتستعيد جزءا من عنفوانها الشبابي المفقود، نجحت تجارب تلك الدراسة أيضاً في إعادة الشباب إلى أنسجة العين التالفة بسبب حالة مرضية شبيهة بالغلوكوما (المياه الزرقاء) البشرية التي تعتبر أحد أكثر أسباب الإصابة بالعمى على مستوى العالم.
آراء الخبراء
ووفقا لتقييمات علماء وخبراء استطلعت مجلة «نيتشر» آراءهم، فإن أهمية هذا الإنجاز العلمي تكمن في كونه «أول محاولة نجحت في استعادة شباب خلايا معينة بما أدى إلى إنهاء العمى الناجم عن المياه الزرقاء (الغلوكوما)، وفي المقابل فإن المعالجات التقليدية المعروفة تتسم بكونها احتوائية، بمعنى أنها تتوقف عند مجرد إيقاف تراكم مزيد من المياه الزرقاء».
ويتوقع أولئك العلماء أنه إذا تم المضي قدما في هذا الاتجاه الواعد من خلال مزيد الدراسات، فإنه يمكن للنتائج أن تمهد الطريق أمام إحداث ثورة غير مسبوقة على صعيد تحقيق حلم تحريك عجلة الشيخوخة في إتجاه عكسي، وذلك من خلال اكتشاف وتطوير علاجات تعيد شيئاً من حيوية وقوة الشباب إلى الخلايا والأنسجة الحيوية في أعضاء جسم الإنسان التي تتسبب شيخوختها في إصابة صاحبها عادة بأمراض مزمنة تتفاقم مع تقدمه في العمر.
عقارب ساعة الشيخوخة
وقال البروفيسور سينكلير معلقاً على ثمار الجهود التي قام بها هو وفريق الباحثين الذين عملوا تحت إشرافه: «إن نتائج دراستنا تشير بوضوح إلى أنه من الممكن عملياً جعل عقارب ساعة شيخوخة أنسجة معقدة تتحرك إلى الوراء - خصوصاً أنسجة وخلايا شبكية العين - بما يجعلها تستعيد جزءاً كبيراً من أدائها الوظيفي الشبابي».
وفي حين أوضح سينكلير أن هذه النتائج تعتبر أولية ولا تزال بحاجة إلى إجراء مزيد من الدراسات الاستطلاعية في الاتجاه ذاته قبل البدء في تطبيق التجارب على البشر، فإنه أكد على أن النتائج التي أسفرت عنها الدراسة هذه «أفرزت دليلاً يرقى إلى مستوى إثبات المفاهيم، كما أنها رسمت مساراً عملياً واضحاً من الممكن الاستمرار عليه سعياً إلى ابتكار علاجات لمجموعة من أمراض الشيخوخة البشرية التي تنجم عادة عن التقدم في السن».
تطلعات مستقبلية
وتابع سينكلير مستشرفاً التوقعات في آفاق المستقبل المنظور: «إذا أكدت دراسات إضافية جدوى النتائج التي خلصنا إليها، فمن المتوقع لها أن تطلق شرارة ثورة تحويلية في مجال معالجة أمراض البصر الناجمة عن حالات كالمياه الزرقاء (الغلوكوما)، ناهيك عن أنه من المتوقع أن تكون لها تطبيقات مفيدة أخرى كثيرة في المجالات البيولوجية والعلاجات التجديدية للأمراض بشكل عام»، منوهاً إلى أن مصطلح «العلاجات التجديدية» يشير في المجال الطبي إلى التقنيات والعلاجات التي تؤدي إلى تجديد شباب وحيوية الخلايا والأنسجة.
النهج... والنتائج
وفي سياق تجاربهم وجهودهم البحثية، اعتمد سينكلير ورفاقه الباحثون على استخدام فيروس غُدَّانيّ (أي: مرتبط بالغدد) حيث وظفوه ليعمل كوسيلة نقل في أجسام فئران التجارب، وذلك لإيصال 3 أنواع معينة من الجينات (المورثات) المجدِّدة للشباب إلى شبكيات عيون تلك الفئران المصابة بالغلوكوما (المياه الزرقاء)، ورموز تلك الجينات هي: Oct4 وSox2 وKlf4، وتكون نشطة عادة أثناء مراحل التطور الجنيني فقط. وإلى جانب مورثة جينية رابعة لم يتم استخدامها في هذه الدراسة، تُعرف تلك الجينات مجتمعة في الأدبيات الطبية بمصطلح «عوامل ياماناكا».
ووفقا لما جاء في الورقة البحثية التي نشرتها مجلة «نيتشر»، فإن نتائج الدراسة كشفت عن أن ذلك العلاج الجيني أفرز تأثيرات «تجديدية» إيجابية على العين. «فمن ناحية، أسهم العلاج في تجديد وترميم واستعادة جزء ملموس من شباب خلايا أعصاب الإبصار التالفة لدى الفئران المريضة. ومن ناحية ثانية، أدى العلاج إلى استرجاع جزء من البصر الذي كانت تلك الفئران المُسِنَّة قد فقدته بسبب إصابتها بحالة مرضية شبيهة بحالة الغلوكوما (المياه الزرقاء) لدى البشر. وإلى جانب هذا وذاك، ساعد العلاج في استرجاع نسبة كبيرة من البصر لدى الفئران المسنة غير المصابة بالغلوكوما».
النظرية... و«الإبيجينوم»
وشرح الباحثون أن النهج الذي اعتنقته هذه الدراسة ارتكز في الأساس على نظرية علمية حديثة تهتم باستكشاف وتفسير الأسباب التي تؤدي إلى شيخوخة الجسم، وهي النظرية التي ترى أن معظم خلايا الجسم البشري تحتوي على جزيئات الحمض النووي نفسها، ولكنها تقوم بوظائف تخصصية متنوعة على نطاق واسع جداً. كما تتصور تلك النظرية أنه في سبيل قيام الخلايا بهذه الوظائف التخصصية، فإنه يتعين عليها أن تقوم بـ«قراءة» والتفاعل مع الجينات المخصصة لها هي فقط. وعلى هذا الأساس، فإن تلك الوظيفة التنظيمية هي من اختصاص منظومة تُعرف بـ«الإبيجينوم» (أي: ما فوق الجينوم) وهي المنظومة المسؤولة عن القيام بمهام تفعيل وتعطيل عمل الجينات في أنماط محددة من دون إحداث أي تغيير في تسلسل الحمض النووي الأساسي لكل جين.
وتستند تلك النظرية على فرضية مفادها أن التغيُّرات التي تطرأ على الإيبيجينوم مع مرور الزمن (العمر) تتسبب في جعل الخلايا الجينات تخطئ في قراءة والتفاعل مع الجينات الملائمة لها – وهو الأمر الذي يؤدي إلى حدوث الشيخوخة ونشوء الأمراض الناجمة عنها والمرتبطة بها.
واختتم الباحثون تقريرهم الوصفي بالقول إن الفرضية التي نجحت الدراسة في إثباتها انطلاقا من هذه النظرية هو إثبات أنه من الممكن عملياً استخدام جينات تجديدية معينة لإعادة الذاكرة والحيوية إلى الإبيجينوم البشري بحيث يسترجع جزءا لا بأس به من قدراته الوظيفية التمييزية التي تساعد الخلايا والأنسجة المُسِنَّة على استعادة جزء لا بأس به من قدراتها الشبابية.