لم تَعُد الاجتماعات ذات الصلة بتأليف الحكومة الجديدة، تأخذ إلا حيزاً قليلاً من اهتمامِ اللبنانيين، ليس فقط لاقتناعٍ متزايد بأن لا ولادة وشيكة وأن مفتاح الحل والربط في هذا الملف، خارجيّ بعدما تحوّلت البلاد «جيْباً» في الصراع الأميركي - الإيراني الكبير، بل أيضاً لأن «هديرَ» الانهيار المالي الذي يقترب لبنان من أخطر منحدراته التي ينزلق إليها وكأنه يقوم بـ «قفزٍ تزلّجي» بلا زلاجات ولا أي مضمارِ هبوطٍ صار أقوى من الآمال بـ «استفاقةٍ متأخّرة» تسمح بتَدارُك الكارثة الجارفة.

وهذا ما يفسّر تحديداً تَصَدُّر مسألة ترشيد دعم السلع الاستراتيجية (الطحين والمحروقات والدواء وبعض المواد الغذائية) المشهدَ الداخلي أمس، وسط اجتماعاتٍ ماراثونية برئاسة رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب الذي يحاذر أن تنفجر بوجهه مُنْفَرداً «كرةُ النار»، ساعياً لتكون «إعادة تنظيم» الدعم ومدّ «أرجله على قدر بساط» الـ 800 مليون دولار (المتبقية من احتياطي «المركزي» بالدولار القابلة للاستخدام) من ضمن عمليةٍ تَشارُكية ينخرط فيها البرلمان بلجانه، بذريعةِ أن تصريف الأعمال لا يجيز للحكومة المستقيلة أن تجتمع وتتّخذ قرارات.

وانشدّت الأنظار طوال على هذا الملف، وسط اقتناعٍ بأن خيارات «الترشيد» باتت مكشوفةً وبهوامش «تعديل» ضيّقة، تشمل مثلاً أي أنواع أدوية تُترك لسعر الصرف في السوق السوداء (نحو 8200 ليرة أمس) وأياً منها تُسَّعر وفق رقم المنصة الإلكترونية (3900 ليرة) وما الفئات التي ستبقى «محميّةً» بمظلّة الـ 1515 ليرة (خصوصاً الأمراض المزمنة والمستعصية)، إلى جانبِ آلية التحرير المتدرّج لتسعيرة المحروقات (البنزين وليس المازوت) وإمكان اعتماد خيار «الكيّ» بالعتمة لساعتيْ تقنين إضافية يومياً، ناهيك عن الاتجاه شبه الحاسم لحصْر الطحين المدعوم بالذي يُستخدم للخبز العربي (وليس المناقيش مثلاً وسواها).

وفيما كان عنوان «الترشيد» يترافق مع سط اعتصاماتٍ وقطع طرق (أول من أمس) في أكثر من منطقة ضدّ رفْع الدعم وهو ما عزّز تَهَيُّب السلطة مثلاً اتخاذ أي إجراء في ما خص المحروقات من شأنه «حرْق أصابع» مؤيّديه وربْط مثل هذا الخيار بنتائج اتصالاتٍ مع دولٍ لمحاولة تأمين آلية دفْع مريحة، فإن مجمل هذا الملف لم يتأخّر في التشابك مع مسار تأليف الحكومة العتيدة التي، إما تولد على صفحةٍ بيضاء بعد أن يكون مخاض «الدعم بالقطّارة» سَلَكَ طريقه على يد «الحكومة المستقيلة»، وإما ترث هذه «القنبلة الموقوتة» التي يبقى انفجارُها أم لا، رهناً بمواصفات الحكومة التي كُلف بتشكيلها الرئيس سعد الحريري.

وإذ لم يتبدّل حرفٌ في دفتر الشروط الذي حدّده المجتمع الدولي، «ممثَّلاً» بالمبادرة الفرنسية، لجهة شكل الحكومة الجديدة بما يعكس أن الطبقة السياسية «استعادت رشدها» وأن «القديم لم يبقَ على قِدمه» في ما خص منطق المحاصصة السياسية والحزبية، كما نهج هذه الحكومة الإصلاحي الذي يطلّ على عنوان شائك ترفعه الولايات المتحدة ودول عربية علناً وبلدان أوروبية ضمناً وهو استخدام «حزب الله» تَحَلُّل المؤسسات ومكامن الفساد لتمكين نفوذه كذراعٍ متقدمة لإيران في المنطقة، فإن الحريري الذي يتحرّك تحت هذا السقف في محاولاته تفكيك الألغام من طريق التأليف يضرب اليوم موعداً مهماً مع رئيس الجمهورية ميشال عون يفترض أن تتكشف معه النيات الحقيقية بإزاء مقاربة الأخير وفريقه هذا الملف.

هذا على الأقلّ ما أوحت به أجواءٌ اعتبرت أن الحريري الذي قدّم إلى عون، الثلاثاء، مسودة تشكيلة من 18 وزيراً، وفق توزيع طائفي ومذهبي للحقائب ومن دون أسماء، على أن يسْمع اليوم جواباً، ملمّحة إلى أن الرئيس المكلف لن يدخل في لعبة الأسماء قبل نيْل الجواب، وإلى أن عون سيجاهر برغبة فريقه (حصته مع التيار الوطني الحر) بأن يكون له 7 وزراء في تشكيلة من 18، أي الثلث المعطلّ، وهو ما يرسم الحريري خطاً أحمر حوله، ومشيرة إلى أن مثل هذا الطرح سيعني أن لا حكومة قريباً وقبل وصول الرئيس ايمانويل ماكرون الى بيروت بعد أقلّ من أسبوعين، ومتسائلة إذا كان زعيم «تيار المستقبل» سيلوّح بورقة الاعتذار.

على أن أوساطاً أخرى استبعدتْ أن يجاهر عون بشرط الحصول على الثلث المعطّل ما دام عنوان وحدة المعايير لجهة مَن يسمي وزراء كل طائفة يوفّر غطاء لهذا المطلب الذي يؤمّن «ورقة ذهبية» لرئيس «التيار الحر» جبران باسيل في حكومةٍ قد تدير البلاد بعد أقلّ من سنتين وكأنها «رئاسية» بحال وقعت البلاد مجدداً في فراغٍ رئاسي مع انتهاء ولاية عون، مشيرةً إلى أنه في كلا الحالين فإن ما شهدته الساعات الماضية يبدو أقرب إلى استمرار لعبة الكمائن المتبادلة خلف قرار كبيرٍ بالمضيّ في استرهان الواقع اللبناني واقتياده إلى حافة المواجهة الإقليمية وربما إلى قلْبها بحال حصلتْ تطورات من النوع الذي يقلب التوازنات في المنطقة.