لم يعرف التاريخ لاعبين شكلوا بأسمائهم مرادفاً لبلادهم إلا قلة لا شك في أن نجم كرة القدم دييغو مارادونا واحد منهم.

جرى دفن مارادونا، أمس، عند أطراف العاصمة بيونوس آيرس، بيد أن ذكراه ستبقى راسخة.

بقي جثمان النجم الكبير مسجى في «كاسا روسادا»، القصر الرئاسي الأرجنتيني لـ24 ساعة.

وتوافدت الجموع لإلقاء النظرة الأخيرة على النعش المغطى بالعلم الأرجنتيني وبقميص يحمل الرقم 10والقول ADIOS (إلى اللقاء) لنجم لن تنجب الملاعب مثله.

زوجته السابقة كلاوديا فيافانيي وابنتاهما دالما وجانينيا، وصلتا إلى القصر قبل منتصف ليل الأربعاء-الخميس، بالإضافة إلى العديد من اللاعبين الحاليين والسابقين.

في بوينوس أيريس، ارتسم الحزن على وجوه المارة، فيما سيطرت أجواء الصدمة والذهول على الأرجنتينيين الذين فقدوا نجمهم بنوبة قلبية في سن الـ60.

في أحد الشوارع، يقول فرانسيسكو سالافيري (30 عاماً): «لا يسعني التصديق. أشعر وكأني أرى كابوساً. أحاول إقناع نفسي أن الأمر مزحة».

ويؤكد غابرييل أوتوري (68 عاما) أنه يواجه صعوبة في الحديث «لأنني مصدوم ومجروح».

عند أقدام المسلة في وسط بوينوس أيريس حيث تجرى الاحتفالات بالإنجازات الرياضية، تجمع أكثر من ألف من المعجبين بالأسطورة مساء الأربعاء.

معجبون آخرون تجمعوا قرب الملعب الذي يحمل اسم مارادونا في العاصمة، أمام رسم جداري لوجهه زيّن بالورود والشموع وبقمصان تحمل الرقم 10.

في حي بوكا حيث لعب مارادونا في صفوف بوكا جونيورز، تؤكد باتريسيا أن وفاة دييغو «بمثابة فقدان أب لي لأن مارادونا كان كل شيء بالنسبة لنا».

ورغم الجدل الذي أثاره في حياته، يبقى مارادونا لأجيال عدة من الأرجنتينيين أحد رموز هويتهم.

فبعد 4 سنوات على حرب المالوين (1982) بين الأرجنتين وبريطانيا، سجل هدف الفوز في مواجهة إنكلترا والذي يعتبر من الأجمل في التاريخ، بعد ذاك الذي سجله بيده.

وأوصل الشعب الأرجنتيني إلى الذروة عندما رفع كأس العالم 1986.

وكانت مدينة نابولي، هي الأخرى، على موعد مع لحظات وداع قاسية، خصوصاً أن مارادونا صنع أمجادها.

قال دييغو العام 1984 في طائرة متجهة إلى المدينة الجنوبية: «أتوقع راحة البال والاحترام».

نسي راحة البال سريعاً، لكنه حصد أكثر من الاحترام.

شرح بعد قدومه إلى نابولي: «لم أكن أعرف نابولي أو إيطاليا، لكن لم يكن يريد أي فريق التعاقد معي».

لم يكن مارادونا قد أصبح «عبقري كرة القدم العالمي» عبر تتويجه بمونديال 1986، لكن نابولي بدا أصغر من حجم موهبته.

بعد منحه الأرجنتين لقباً ثانياً في كأس العالم، كرّس نفسه لرفع شأن نابولي وجماهيره الجنوبية الفقيرة مقارنة مع مدن الشمال خصوصا ميلانو وتورينو.

يشرح في سيرته «حقيقتي» (2016): «شعرت فورا بأني كالسمكة في الماء. أحببت المدينة بسرعة لأنها ذكرتني بجذوري».

تابع: «شعرت بأني أمثل جزءاً من إيطاليا لا يهم أحدا».

وذكر في فيلم حمل اسمه عام 2008: «اعتقد الناس أن الجنوب ليس بمقدوره الفوز على الشمال».

عقدة نقص تبخرت في 10 مايو 1987 عندما توّج نابولي ببطولة الدوري.

يشرح مارادونا: «كانت أعظم لحظة في حياتي. أحرزت ألقاباً إضافية، كأس العالم، لكن ليس في بلدي. هذا بيتي هنا».

تماهى مارادونا مع مدينته، لكن النجم العالمي الجديد غرق في مساوئ المخدرات والكوكايين.

كانت نابولي مفتونة بمارادونا، وفي مقدمة المهتمين، الكامورا وهي المافيا المحلية التي كانت توفر له الكوكايين والنساء. شكل ذلك ضغطاً كبيراً عليه، ما جعله يفكر بالرحيل إلا أن رئيس النادي رفض.

بعد ثنائية الدوري-الكأس في 1987، منح نابولي كأس الاتحاد الأوروبي 1989، ثم لقب «سكوديتو» جديد في 1990.

مع إغراءات الانتقال إلى مرسيليا الفرنسي في 1989، بدأت هالة مارادونا تخف في نابولي خصوصا مع ولادة ابن غير شرعي له.

عاش لحظة غريبة في نصف نهائي مونديال 1990، عندما واجه الطليان في نابولي التي شجع سكانها مارادونا على حساب بلدهم.

اتُهم بإحداث حالة شرخ في البلاد لقوله: «نابولي ليست إيطاليا»، ثم ترك الجنوب بعدها بسنة. وضع اختبار إيجابي للكوكايين حداً لمشواره وأدى إلى إيقافه 15 شهرا.

بعد ثلاثة عقود على مغادرته النادي، لا تزال صوره في أنحاء المدينة كافة، وتنشد جماهير النادي أهازيج باسمه أثناء المباريات.

ويتمتع ماردونا بمتحف في نابولي يزخر بكنز فعلي من المقتنيات الرائعة.

مئات الأطفال في المدينة أطلق عليهم اسم دييغو. وبحسب بلدية نابولي العام 2016، منح 46 مولودا هذا الاسم. علامة احترام مستمرة لدييغو الذي حصل أخيرا على الراحة... الأبدية.