بعد عقود طويلة من العنف، تقف أفغانستان عند مفترق طرق. تسبب هذا الصراع الذي دام عقوداً في خسائر فادحة من حيث الأرواح وسبل العيش وأثر على كل جوانب الحياة العامة والخاصة. ومع تطلع سكان البلاد إلى السلام، ووجود بيئة مواتية لذلك، تمتلك أفغانستان أخيراً فرصة جدية للانتقال من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلام.
يتزامن إطلاق الإطار الوطني الأفغاني الثاني للسلام والتنمية (ANPDF) والذي يغطي السنوات الخمس المقبلة، مع «مؤتمر أفغانستان 2020» في جنيف، المقرر عقده الاثنين والثلاثاء. ويشكل هذا المؤتمر فرصة نادرة للحكومة الأفغانية وشركائها للالتقاء ومناقشة سبل المضي قدماً بما فيه خير البلاد.
ويشارك برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في هذا الحدث المهم وسيستغل كل فرصة لدعم أفغانستان في سعيها نحو حقبة جديدة. اتخذت حكومة أفغانستان قراراً استشرافياً جريئاً بإدراج أهداف التنمية المستدامة (SDGs) كدليل ونهج لتنفيذ الإطار الوطني الأفغاني للسلام والتنمية.
وترشد أهداف التنمية المستدامة سياسات الحكومة المستقبلية وأطر العمل والمنهجية وقياس مؤشر التقدم والتنمية في البلاد. كما ستقوم الحكومة، بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بتشكيل اللجنة التنفيذية لأهداف التنمية المستدامة برئاسة النائب الأول لرئيس الجمهورية وعضوية عدد من الوزارات والمؤسسات الوطنية التي ستتابع هذا التقدم.
بناءً على الخبرة العالية في مجال النمذجة الاقتصادية الواسعة، سيعمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبالتعاون مع الحكومة الأفغانية، على ادماج تداعيات ومسارات وباء الكورونا كجزء أساسي من هذه العملية.
وتشير المؤشرات العالمية إلى أن الثقة تجاه الدولة في أفغانستان بشكل عام، والثقة في الشرطة المدنية والجيش بشكل خاص، ليست فقط من بين الأدنى في العالم، بل ان تلك الثقة تتدهور بشكل مضطرد.
ان السلام في أفغانستان يعتمد على زيادة الشفافية والمساءلة والحد من الفساد وضمان الاستخدام الفعّال للموارد العامة. وتدل الدراسات والعمل التحليلي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن التحسينات في الحوكمة وفي بيئة الأعمال تزيد من إمكانات وفرص الحصول على الضمانات المصرفية وخطوط الائتمان - والتي يمكن بدورها أن تساهم بزيادة مقدارها نقطتان مئويتان في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي.
كما ان تعميق الترابط الاقتصادي بين أفغانستان ودول الجوار عبر توسيع التجارة والاستثمارات البينية يمكن أن يوفر أربع نقاط مئوية إضافية الى معدل النمو الاقتصادي. وسيواصل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عمله في دعم الحكومة للعمل مع المواطنين لبناء الثقة في المؤسسات العامة وتحقيق قدر أكبر من الشفافية في عمل هذه المؤسسات.
أدى انتشار وباء كورونا إلى زعزعة كبيرة في الاقتصاد العالمي، ومن الطبيعي ان تتأثر أفقر دول العالم، ومن بينها أفغانستان، بالنتائج المباشرة وغير المباشرة للتدهور الناتج في الاقتصاد العالمي. اذ تشير التقديرات إلى أن البلاد ستخسر ما يقارب ستة في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي.
وحتى إذا استؤنف النمو في عام 2021، فلن يصل حجم الناتج المحلي إلى المستوى الذي كان للعام 2024. لذلك يمكننا القول إننا بأمس الحاجة في اللحظة الراهنة إلى التضامن الدولي أكثر من أي وقت مضى، وذلك في ظل ارتفاع سريع ومخيف في معدلات الفقر والبطالة والعوز.
ففيما يقف العالم مترقباً الى من سيحصل على اللقاح ضد فيروس كورونا أولاً، يقف الشعب الأفغاني خائفاً وحيداً لانهم لا يظنون أنفسهم في صف المحظوظين الذين سوف يحصلون على اللقاح مبكراً.
يبقى مؤشر التنمية البشرية في أفغانستان منخفضاً رغم سنوات من التحسن المستمر والبطيء، ولكن وللأسف من المتوقع أن يُظهر عام 2020 انخفاضاً في المؤشر لأول مرة منذ 30 عاماً. ومن المتوقع ان يؤدي العمل الجاد والفعال في مجالات بناء السلام، وبناء الدولة، وبناء السوق، وهي محاور الاطار الوطني الأفغاني للسلام والتنمية ANPDF، الى انخفاض في حجم الاقتصاد غير الرسمي، والى ارتفاع معدلات النمو، وفي الإيرادات الحكومية.
هذه الايرادات التي يمكن إنفاقها على التعليم والصحة والحماية الاجتماعية والبنية التحتية العامة. بالاضافة الى ان هناك حاجة ملحة لمساعدة الأشخاص الأكثر تضرراً من تداعيات الوباء الأخير، بالإضافة إلى السعي لتحقيق التحاق عام بالتعليم مع تركيز خاص على الفتيات.
كما يقدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن تكلفة الأشغال العامة والمعاشات الاجتماعية وبعض المساعدات النقدية للأشخاص النازحين داخليا والعائدين من اللجوء، لن تتجاوز 10 في المئة ما يُدفع حالياً مقابل الأمن.
على الصعيد العالمي، تعد أفغانستان واحدة من أكثر البلدان تعرضاً للكوارث الطبيعية. وتفتقد البلاد الى أقل قدر من المرونة والقدرة على التعامل مع نتائج صدمات تلك الكوارث.
بالمقابل لا ينبغي لسياسات الاستجابة القصيرة الامد أن تنتقص من الجهد المبذول لضمان الاستدامة البيئية. ان انتهاء الصراع في أفغانستان سيؤدي حتماً إلى زيادة الاستخدام المستدام والمفيد للموارد الطبيعية للبلاد ويضع عائدات هذا الاستخدام ضمن المقدرات الوطنية لزيادة الإيرادات الحكومية.
ويعتمد ذلك على تطبيق سياسات توازن بين النمو الاقتصادي العادل والاستدامة البيئية.
يوفر الإطار الوطني الأفغاني الثاني للسلام والتنمية فرصة لمراجعة صريحة للتحديات التي تواجه أفغانستان. ويحدد بوضوح الأولويات الحكومية على مدى السنوات الخمس المقبلة ويقترح مسارات ذات مصداقية للسياسات والإصلاحات.
كما أن أهم مخرجات الاطار يشير بوضوح لضرور ة استمرار شركاء أفغانستان الدوليين بالدعم ويؤكد على التزام الحكومة الوطنية بمبادئ الشراكة التي سيتم الاتفاق عليها في مؤتمر جنيف.
ان السياسات والبرامج المقترحة في الاطار الوطني لا يمكن ان تتحقق إلا من خلال التعاون بين أفغانستان وشركائها في التنمية، ومن ضمنهم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمات الأمم المتحدة.
وفي هذا الصدد، يضع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي كامل قدراته كميسر ومنظم ومنسق لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة ضمن دوره في دعم تنفيذ الخطة الوطنية لتنمية. ان موقع افغانستان الجغرافي على مفترق طرق بين آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية والشرق الأوسط والصين، يشكل فرصة لرفع إمكانات أفغانستان المستقبلية إلى حد كبير، ومن ضمنها توافر مجموعة متنوعة من الموارد الطبيعية، وخلق الفرص والقدرة على استغلال تلك الموارد غير المستغلة.
كما ستحتاج افغانستان إلى الاستفادة من رأسمالها البشري المقيد حالياً بمستويات تعليمية منخفضة، ومستويات عالية من البطالة وبالدور المحدود للمرأة الأفغانية وفي الحياة العامة.
تقف أفغانستان عند مفترق طرق، وهناك الكثير مما يتعين على الجميع القيام به بشكل أفضل وأسرع وأكثر كفاءة وتماسكاً. فأفغانستان تواجه تحديات هائلة، ولكن مع استمرار المساعدة الفنية والدعم المقدم من المانحين، وعمل الأمم المتحدة في شراكة مع الحكومة، يمكننا إعادة اطلاق النمو الاقتصادي، بما يجعل البلاد أقرب إلى تحقيق خطة عام 2030، مع أهداف يمكن استخدامها لتقييم ما تم تحقيقه وفتح الطريق إلى الأمام نحو أفغانستان أكثر سلاماً وازدهاراً.
* الممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في أفغانستان