كيف كان يعيش الإنسان قبل اكتشاف «الإنسانية»؟ وكيف كان يتنفس الناس قبل اكتشاف «الأوكسجين»؟ وكيف كان يتكلم المثقفون العرب قبل اكتشاف «أوروبا»؟ لا أعرف الأجوبة عن هذه الأسئلة، ولكن ما ألاحظه أن الفضاء العام في العالم العربي يسير في ثلاثة اتجاهات، الأول «الإنسانية المفرطة» والثاني «فرط اللامبالاة»، والثالث «الإنسان العادي».
أما بخصوص الإنسانية المفرطة في إنسانيتها، فعندما تكون ملكياً أكثر من الملك، فأنت تسيء إلى الملك، وعندما تكون ثورياً وتزايد على الجميع، فأنت تسيء إلى الثورة، وعندما تكون إنسانياً أكثر من الإنسانية نفسها، فأنت تدعونا إلى الانقراض.
فتاة عربية مسلمة مثقفة لا تريد أن تنجب أطفالاً لأنها تعتقد أنه ينبغي علينا «إنسانياً» أن نجد آلية ما لسؤال الأطفال أنفسهم ما إذا كانت لهم رغبة النزول من الأرحام أم البقاء في العدم، في ظل معطيات الحاضر التي تشير إلى أننا نتجه إلى حروب الفضاء.
ونادي قراءة حقوقي إنساني يناقش جريمة صيد الأسماك التي تتلاطم وتموت بعد إخراجها من الماء، ويتراقصون طرباً وفرحاً بدكتورة من جامعة بنسلفانيا ألّفت كتاباً بعنوان «هل تتألم الأسماك؟» توضح فيه أن الأسماك تتألم وتشعر وتُحب وتعشق، وتباً للسنارة التي فرقت بين سمكتين، لتضع العاشق على صحن رجل طلق زوجته للتو! مجموعة أخلاقية أخرى تنادي منذ 2008م بعدم أكل البيض الذي تبيضه الدجاجات المحبوسة في أقفاص، ومجموعة أخرى تنادي بحليب أخلاقي يباع في الأسواق، وقد كتب عليه «السيرة الذاتية» للحيوان الذي حُلب مع ذكر درجة السعادة التي يعيشها ! ومجموعة أخرى تناقش ما إذا كانت النباتات تتألم، وتصل إلى قناعة أنها تتألم ولا ينبغي علينا تناولها، تماماً كما لا ينبغي علينا تناول لحوم الحيوانات التي بالتأكيد تتألم أيضاً ! عزيزي القارئ، ماذا يحدث لو طبقنا معايير هذه الإنسانية لدى هذه المجاميع ؟ سنمتنع عن أكل اللحوم والدجاج والسمك والبيض والنباتات... لأنها تتألم، بينما نعيش جميعاً في ألم الجوع.
فأرجوك أيها الإنساني، علمني كيف أبيض وأنا على استعداد أن أتبعك.
كثير من هذه المجاميع مفرطة في إنسانيتها، وهي غالباً نخب غير منتجة، متفرغة لتشريع ما ينبغي ولا ينبغي فعله، من أجل حياة أفضل.
أما الاتجاه الآخر فهو المفرط في لا مبالاته، والذي لا تتعدى اهتماماته السلع ومنتجات الترفيه، ومزيداً من التسوق والاستهلاك واللذة، فهو لا يعتنق أي مبادئ، ولا تهمه أي قضايا، يعيش في عالم سائل من دون منارات، ولا ارتباطات أو مسؤوليات، يمكن له أن يكون وطنياً حتى النخاع والرقبة، بشرط ألّا يكلفه الأمر أي شيء، ويمكن أن يُحب الضحك والعائلة والتجمعات السنوية بشرط ألّا يقدم دعماً لأحد أو يوجد عندما يحين وقت وجوده، يعيش سلسلة من المشاريع الصغيرة والقصيرة الأجل حتى في الحب والزواج.
هذا الاتجاه المفرط في اللا مبالاة يُسخف التاريخ والتراث وحركات الإصلاح، يظهر استنارته من خلال لا مبالاته، وعدم طرح أي أفكار، والسخرية من الجميع بمن فيهم ذاته.
أما الاتجاه الثالث... وهو الإنسان العادي، وهو الآن بين المطرقة والسندان، والإعلام والواقع، والسياسة والاقتصاد... وغارق في الصمت... ولكنه يعلم أن كل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.
قصة قصيرة: على هامش الانتخابات: - ما هي البقعة الأكثر ديموقراطية في العالم ؟
- مجاري الصرف الصحي.
- وكيف ذلك ؟ للجميع فيها المقدار نفسه، وتختلط الأصوات والروائح من دون أي اهتمام لمصدرها أو مناصب أصحابها، والاقتراع فيها سري جداً ولا يمكن تزويره، وتكون أمعاؤنا جميعاً تنشد هدفاً مشتركاً واحداً ليس فيه أقلية أو أغلبية.
Moh1alatwan