القادة السياسيون المسيحيون في لبنان لديهم أهداف سياسية تختلف جوهرياً مع إيديولوجيا «حزب الله»، وهو ما أَظْهَرَهُ زعيم أكبر كتلة برلمانية مسيحية (التيار الوطني الحر) جبران باسيل الأحد الماضي في إطلالةٍ متلفزة رداً على العقوبات الأميركية على خلفية اتهامه بالفساد ولتحالفه الوثيق مع «حزب الله».

فبعد ما كشف باسيل عن جوانب من الترغيب والترهيب الذي مورس عليه لإبعاده عن الحزب، لم يتردّد في إبراز اختلافاتٍ أيديولوجية، تُعتبر في رأي البعض «بوليصة تأمين» تُجَنِّب لبنان حرباً أهلية وتحول دون نزوحِ المسيحيين من الشرق الأوسط، وهو «ما ترغب به إسرائيل»، بحسب باسيل نفسه.

ومع معاودة تسليط الضوء على العلاقة بين «التيار الوطني» و«حزب الله»، من الجدير طرح السؤال الآتي: ما الاختلافات الجوهرية بين هذا المكوّن المسيحي والحزب الشيعي؟ وهل تريد الولايات المتحدة من المسيحيين اللبنانيين إضعاف الحزب، وكيف؟ في غمرة حمّى الانتخابات الأميركية، أعلنت واشنطن في 6 نوفمبر، وفي خطوةٍ بدتْ غير مفهومة ولا فائدة إستراتيجية منها للولايات المتحدة أو إسرائيل، عقوباتٍ على باسيل، الذي قال إن السفيرة الأميركية دوروثي شيا زارتْه لتوجيه إنذارٍ له وحذّرتْه من العقوبات في حال لم يفكّ تيارُه التحالفَ مع الحزب، لكنه رفض التهديد ففرضتْ عليه إدارة الرئيس دونالد ترامب عقوبات.

وعندما قرر باسيل الكشف عن فحوى لقاءاته ومحادثاته مع الأميركيين، حرص على إظهار تَوازُنٍ بين علاقته مع «حزب الله» ومع الغرب أيضاً عبر عرْضه لنقاط الخلاف مع الحزب من حيث «التفكير واللغة والعقيدة»، رغم إصراره على التمسك بالتحالف السياسي معه، وهو الأمر الذي بدا واقعياً وغير مفاجئ.

فـ «حزب الله» يَعتبر الولايات المتحدة «الشيطان الأكبر ورأس الأفعى»، وهدفُه إنهاء وجود إسرائيل، وهو لا يشترك مع غالبية المسيحيين هذه الأهداف، وأكثر من ذلك فإن هؤلاء ليسوا الجماعة الوحيدة التي لا تشاطره الأمر، فحركة «أمل» (الشيعية) بقيادة رئيس البرلمان نبيه بري، الحليف الأقرب لـ «حزب الله» لا تَرْفَعُ الشعارات عيْنها، وبري - على عكس الحزب - يتمتع بعلاقاتٍ ممتازة مع الدول الغربية والعربية.

ولم يكتفِ باسيل بهذا القدر في مكاشفته تحت وطأةِ العقوبات التي فُرِضَتْ عليه، بل تحدّث عن أن مسيحيي لبنان يَعتبرون العلاقةَ مع الولايات المتحدة مهمةً ويجب التعامل معها وفقاً لذلك، وأن لإسرائيل الحقّ بالعيش بأمان عندما يتم ضمان أمن الأراضي العربية وحقوق الفلسطينيين، وهو يعني بذلك عودة الجولان إلى سورية والأراضي المحتلة إلى لبنان، كما عودة اللاجئين الفلسطينيين، وقيام دولة فلسطينية مقابل التطبيع مع إسرائيل.

هذه الأفكار جاءت تماماً في مبادرةٍ وافق عليها الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد قبل لقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك العام 2000، لكنها فشلت في اللحظة الأخيرة، كما هي الأفكار عيْنها التي جاءت في مبادرة السلام العربية التي أُقرت في قمة بيروت 2002 وتبنّاها الرئيس بشار الأسد والرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود، وهما من الحلفاء المقرّبين لـ «حزب الله».

من الواضح أن باسيل لا يريد أن يبدو وكأنه يتموْضع في أحضان «حزب الله» بالكامل، ولا يقبل علاقةً مشروطةً بالغرب عندما تُهَدِّد تلك الشروط بحرب أهلية في لبنان، فرئيس «التيار» لم يستجب للطلب الأميركي الانضمامَ إلى ائتلافٍ واحد مع أطراف مسيحية كـ «القوات اللبنانية» بزعامة سمير جعجع وحزب الكتائب اللبنانية إضافة إلى الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وذلك بهدف عزْل الحزب.

ويعتقد «التيار الحر» أن طلب الولايات المتحدة عزْل الطرف الشيعي الأقوى، من شأنه أن يقْسم لبنان إلى جزءين، يتموْضع المسيحيون في جانبٍ واحدٍ ويُترك السنّة والشيعة إلى فتنةٍ من السهل إيقاظها بهدف إشغال «حزب الله»، الذي سيكون عرضةً لضربة إسرائيلية يصفّق لها الغرب الأكثر ميْلاً إلى تقسيم لبنان تحت شعار حماية المسيحيين.

وثمة مَن يعتقد أنه في حال كانت اليد العليا لـ «حزب الله» في أي حربٍ داخلية، فإنه سيُجبر المسيحيون على الهجرة ليُترك لبنان في صراعٍ طائفي على غرار ما حدث في العراق وسورية في العقد الماضي، وهو ما يذكّر بما كان اقترحه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي على البطريرك الماروني عندما طالبه الأخير بالعمل على حماية المسيحيين العام 2011.

ولم تكن عابرةً إشارةُ باسيل إلى إحباط الأجهزة الأمنية تحرّكات لمسلّحين من «داعش» في شمال لبنان، وكشْف شبكة من 40 مسلحاً كانوا يخططون لإحياء تنظيم «الدولة الإسلامية» وهم على صلة بإدلب السورية، فالمسيحيون يدركون أن انفصالهم عن «حزب الله» سيجعلهم بلا حماية، ولذا لا يستطيع باسيل فكّ تحالفه معه، وخصوصاً أن الحزب هو الصديق السياسي الوحيد له في لبنان، لأن كل الجماعات الأخرى بمَن فيهم أطراف من الموارنة والسنّة والدروز والشيعة عملوا على شيْطنته (باسيل) وعزْله.

ومن الثابت أن الولايات المتحدة لا تتعامل مع المسؤولين اللبنانيين من منطلقاتٍ إنسانية أو تبعاً لمصالحهم، فالأساسُ مصالحها، ولذا فإنه رغم تسهيل عملية رحيل عامر الفاخوري إلى الولايات المتحدة، فإن باسيل لم يحظَ بعطْف واشنطن وتالياً فإنها لن تتردّد بالتضحية بأي شيء خدمةً لمصالحها، وهو سلوكٌ لا يتبدّل بتغيير الإدارة أو ساكِن البيت الأبيض.

حاولتْ إسرائيل مواجهةَ «حزب الله» وجهاً لوجه وفرضتْ الولايات المتحدة أقسى العقوبات وأكثرها صرامة ضد إيران، غير أن النتيجة كانت أن طهران لم تستسلم واستمر «حزب الله» في لبنان بدفْع رواتب عشرات الآلاف من مقاتليه بالعملة الأميركية، ولم يبقَ أمام الولايات المتحدة وإسرائيل سوى السعي إلى عزْله وإشغاله في الداخل اللبناني عبر إغراقه بالقلاقل.

«حزب الله»، الذي يدرك هذه الخلاصات يحاذر الوقوعَ في الفخ ويعمل على ترميم خاصرته الرخوة المرتبطة بـ «الاختلافات» في الأيديولوجيا والأهداف مع حليفه المسيحي وينخرط في ورشة دائمة لإدارة تلك الاختلافات على قاعدة «المصلحة المشتركة» بينهما في البقاء معاً. وثمة مَن يرى أن العقوبات على باسيل حرّرتْه وأراحتْ الحزب، إذ بدا أنها أطلقت القائد المسيحي الشاب للمطالبة بتمثيل أكثر وزناً في الحكومة العتيدة بعدما شكا من محاولات تحجيمه، وهو الأمر الذي يضع الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري في موقفٍ حَرِجٍ بعدما راهَنَ على مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون والقائمة على تخطي نتائج الانتخابات النيابية وتشكيل حكومةٍ من دون باسيل.

وهكذا فإن العقوبات أعطتْ أجنحةً لرئيس «الوطني الحر» جعلتْه أقوى من أي وقت، إذ لم يعد في إمكان «حزب الله» - الذي وقف في «منطقة مُحايِدة» بين الحريري وباسيل في الشوط الأول من المساعي لتشكيل الحكومة - البقاءَ حيث هو، وتالياً أصبح أكثر ميْلاً لمغادرتها دعْماً لحليفه حِفْظاً لموقعه في اللعبة السياسية وتعزيز وضعيّته.

غير أن ثمة لغماً يعتري العلاقة بين باسيل و«حزب الله» الذي يعمل على تبريده على الدوام، ويتمثل بالموقف من بري، شريك الحزب في «الثنائية الشيعية» والحليف الأقرب إليه. فـ «التيار» لا يوفّر مناسبةً لإثارة هذه القضية نظراً لتقويمه الخاص لدور رئيس البرلمان الذي يؤخذ عليه أنه تولّى بالتكافل والتضامن مع الحريري حماية حاكم البنك المركزي رياض سلامة.