لم يتعثّر الحزب الجمهوري في الانتخابات الأميركية هذا العام، بل قدّم أداء قوياً، قد يكون الأفضل في تاريخه، ونجح في توسيع كتلة الأقلية التي يُسيطر عليها في مجلس النواب، ومن المرجّح أن يحتفظ بالغالبية في مجلس الشيوخ. لكن ورغم أداء الحزب الانتخابي المميز، خسر الرئيس دونالد ترامب السباق وأصبح عاشر رئيس في تاريخ الولايات المتحدة، من بين 45 رئيساً، ممَنْ يفشلون في الحفاظ على الرئاسة لولاية ثانية.
التباين في أداء ترامب الضعيف وأداء حزبه القوي، يشي بأن جزءاً لا بأس به من الناخبين الجمهوريين التزموا القائمة الحزبية، ولكن قاموا، اما بشطب ترامب وعدم التصويت لأي رئيس، أو استبدال اسم ترامب باسم المرشح الديموقراطي نائب الرئيس السابق جو بايدن.
تشطيب الجمهوريين لرئيسهم، لا يعني أنهم لا يوافقون على سياسات حزبهم، بل هو اعتراض على شخصية الرئيس الفظة وفوضويته في الحكم، وهي فوضى كانت ستبقى طي الكتمان، إلى حد بعيد، لو لم يكشفها الأداء الضعيف جداً لترامب في مكافحة انتشار وباء كورونا المستجد، وهو الأداء الذي أظهر الولايات المتحدة في طليعة الدول التي أصابها الوباء على مختلف المستويات.
الدرس الثاني من الانتخابات الأميركية - خصوصاً في حال بقاء الغالبية في مجلس الشيوخ وهو الأمر المرجح بعد قيام ولاية جورجيا بإجراء انتخابات الدورة الثانية لتحديد الفائزين بمقعدي الولاية في المجلس - أن الفريق الحاكم المقبل في الولايات المتحدة لن يتألف من تحالف بايدن، وهو من يسار الوسط، ومنافسه السابق داخل الحزب وزعيم جناح أقصى اليسار السيناتور بيرني ساندرز، حسب ما كان يأمل الأخير، بل إن الفريق الحاكم للسنتين المقبلتين على الأقل، وربما على مدى ولاية بايدن، سيتألف من بايدن وزعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السناتور ميتش ماكونيل.
وبين بايدن وماكونيل صداقة تعود إلى عقود بسبب عضويتهما في مجلس الشيوخ. وفي أثناء رئاسة الرئيس الأسبق باراك أوباما، كان نائبه بايدن هو عرّاب كل التسويات التي تمت بين الحزبين، الديموقراطي بزعامة أوباما والجمهوري بزعامة ماكونيل.
صحيح أن هناك مساحة واسعة من السياسات التي انتهجها ترامب بقوة المراسيم التشريعية والتي يمكن لبايدن أن يعكسها بمراسيم تشريعية مماثلة، إلّا أن السياسات التي تحتاج موافقة الكونغرس بغرفتيه، مثل شؤون الموازنة، ستحتاج إلى تسوية بين الحزبين.
وأن يحكم بايدن - ماكونيل يختلف اختلافاً واسعاً من أن يحكم بايدن - ساندرز... ولو أخذنا السياسات الخارجية مثلاً، لوجدنا أنه لو قيض لساندرز نفوذ في البيت الأبيض، لكان سيسعى لإبعاد الولايات المتحدة عن حلفائها التقليديين في منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة دفعها للتقارب مع ايران.
أما السبب، فواضح، ويعود لارتباطات عدد من أركان حركة ساندرز، من أمثال عضو الكونغرس عن ولاية كاليفورنيا ومدير حملته الانتخابية سابقاً رو خانا، مع متمولين من الايرانيين الأميركيين المؤيدين للنظام، وهؤلاء يتمركزون خصوصاً في مدينة لوس أنجليس، التي يسميها الإيرانيون الأميركيون «طهران جليس».
لكن لماكونيل، ومجلس الشيوخ بشكل عام، موقف مخالف حول ايران، ففي أثناء توقيع أوباما على الاتفاقية النووية، أظهر مجلس الشيوخ - بديموقراطييه بزعامة السناتور تشاك شومر قبل جمهورييه - معارضة شديدة لاتفاقية العام 2015، وأجبروا الرئيس على تقديم تقرير حول سير أمورها كل ستة أشهر، وهو ما فعله أوباما وبعده ترامب، الى أن أعلن الرئيس الجمهوري خروجه من الاتفاقية في مايو 2018.
هذا يعني أنه لو حاول بايدن العودة إلى الاتفاقية النووية على الشكل الذي كانت عليه، فإن أول المعارضين سيكون مجلس الشيوخ، بزعامة ماكونيل. ولأن بايدن يسعى لصداقة ماكونيل للتوصل الى تسويات معه تجعل من حكمه ممكناً، سيتنازل الرئيس المنتخب عن أمور كثيرة، بما فيها على الأرجح في الملف الإيراني، مقابل حصوله على دعم ماكونيل في مواضيع داخلية أكثر أهمية لبايدن ولحفاظه على البيت الأبيض لولاية ثانية، مثل مواضيع الموازنة والتمويل وتعيينات الوزراء والقضاء الفيديراليين وباقي كبار العاملين في الادارة المقبلة.
فريق حكم وسطي يتألف من ديموقراطيين وجمهوريين سيعود في الغالب إلى سياسة خارجية تقليدية، تقضي بالتمسك بالحلفاء، ومحاصرة الخصوم، بما فيهم إيران والصين وروسيا. ومن المتوقع أن يضيف بايدن الى اللائحة تركيا، التي خسرت معظم أصدقائها في العاصمة الأميركية والذين كان آخرهم ترامب.
في السياسة تجاه إيران، من المرجح أن يسعى بايدن للعودة إلى اتفاقية نووية، من دون أن يعني ذلك العودة الى ما توصل اليه أوباما حرفياً... فاتفاقية أوباما كانت بمثابة تجربة كان من المفترض البناء عليها، وقد فشلت في رأي معظم الأميركيين من الحزبين، حتى قبل أن ينسحب منها ترامب.
حتى مسؤول السياسة الخارجية في حملة بايدن، جايك سوليفان، وهو الذي قام بالمفاوضات السرية مع إيران في عُمان التي أفضت بدورها للتوصل إلى الاتفاقية، كتب مراراً أن من غير الواقعي العودة إلى الاتفاقية على ما كانت عليه، وهو ما يعني أن إدارة بايدن لا تنوي الرضوخ للشرط الإيراني، كمقدمة لأي محاولات تعديل فيها.
في حكم بايدن، بمؤازرة ماكونيل، سيواصل الرئيس المقبل سياسة ترامب المشجعة للدول العربية على توقيع اتفاقيات سلام ثنائية مع إسرائيل، بغض النظر عن مسار السلام الفلسطيني - الإسرائيلي. والثناء على السلام بين كل من الإمارات والبحرين والسودان مع إسرائيل، كان المرة الوحيدة التي أعرب فيها المرشح بايدن عن دعمه لسياسة ينتهجها ترامب.
وهذا يعني أيضاً أن بايدن سيتمسك بتحالفات الولايات المتحدة القوية مع دول الخليج ومصر، وسيواصل الضغط على إيران و«حزب الله» والرئيس السوري بشار الأسد، والتمسك بمحاولة دعم العراق وتأهيله كدولة حليفة.