ليس ما يشير إلى أن حكومة جديدة ستتشكل في لبنان، علماً ان إعلان رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي عن اتفاق على اطار للمفاوضات مع إسرائيل على ترسيم الحدود بين البلدين، يتطلّب وجود حكومة.
لا وجود في لبنان لمن يريد تحمّل مسؤولياته في وقت طغى الإعلان عن قرب مباشرة المفاوضات مع إسرائيل على كلّ ما عداه من احداث في لبنان... لبنان الغارق في أزمة وجودية وكميّة لا بأس بها من المشاكل المتنوعة.
بين المشاكل، التي غيّبها الاتفاق على اطار للتفاوض مع إسرائيل، مشكلة اعتراض «حزب الله» على المواقف الأخيرة للبطريرك الماروني بشارة الراعي.
فجأة، لم يعد هناك من يعترض على دعوة البطريرك الراعي الى «حياد لبنان»، علما انّ هذه الدعوة في اهمّية ترسيم الحدود البرّية والبحرية مع إسرائيل، ان لم تكن أهمّ منها.
هذا عائد لسبب في غاية البساطة. يعود الى أنّ «حياد لبنان»، الذي سماه البطريرك «الحياد الناشط»، وضع أسساً كان يمكن أن تكون أفضل تمهيد لعملية ترسيم الحدود التي هي عملية في مصلحة لبنان... هذا اذا كان لا يزال ممكنا الحديث عن بلد بدل الحديث عن «ساحة» تستغلها ايران من أجل صفقة من نوع ما مع الإدارة الأميركية.
لم يقتصر التغييب للمشاكل على كلام البطريرك الماروني. بات واضحاً أن لا وجود لمن هو مستعجل على تشكيل حكومة جديدة. وحده برّي تنبّه الى هذه الناحية ودعا مباشرة بعد إعلانه عن الاتفاق في شأن اطار المفاوضات الى المسارعة في تشكيل حكومة.
يعرف رئيس مجلس النوّاب، الذي ما كان ليقدم على ما اقدم عليه لولا الغطاء الذي وفّره «حزب الله»، أي ايران، انّ لا مفرّ من حكومة استناداً الى مواصفات رسمها الرئيس ايمانويل ماكرون، وهي مواصفات لم تعجب «حزب الله» الذي تولّى الانتهاء من تجربة مصطفى اديب ومن المبادرة الفرنسية في الوقت ذاته.
لكنّ موقف برّي لن يؤدي الى نتائج تذكر نظراً الى انّ «حزب الله» يمتلك اجندة خاصة به ولا يريد من رئيس مجلس النوّاب سوى تولي تغطية هذه الأجندة.
يفرض الحاجة الى حكومة جديدة وجود سياسي في الوفد اللبناني المفاوض. سيكون هناك وزير إسرائيلي، ومساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شنكر. من هذا المنطلق، لا يمكن ان يكون الغطاء السياسي غائبا عن الوفد اللبناني. سيعني ذلك غياب الجدّية اللبنانية وانّ الهدف من الإعلان عن الاتفاق على اطار للمفاوضات يتمثّل في كسب الوقت ليس إلّا.
يحاول «حزب الله» تبرير الدخول في مفاوضات مع إسرائيل في شأن ترسيم الحدود. كلّ ما يصدر عنه من كلام لا يلغي الضرر الذي خلفه تمسك الحزب، ومن خلفه ايران، بعمل كل ما يمكن عمله من أجل القضاء على لبنان.
توجت الجهود التي بذلها الحزب الحاقد على بيروت وعلى كل من بنى حجرا في المدينة مثل رفيق الحريري، بتدمير النظام المصرفي الذي يشكل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني. فعل ذلك بموازاة الاستيلاء على مؤسسات الدولة، خصوصا بعدما فرض مرشّحه رئيساً للجمهورية.
ما هو لافت حاليا هذا التهميش لرئيس الجمهورية. في «عهد حزب الله»، لم يعد هناك وزن للرأي المسيحي في قضية في حجم الدخول في مفاوضات مع إسرائيل.
بعد انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية وبعد وصول «حزب الله» الى الاستحواذ على أكثرية في مجلس النواب اثر فرضه قانوناً عجيباً غريباً صمّم على قياسه، ذهب «حزب الله» الى أبعد من ذلك. فرض السنّي حسان دياب، الذي يمثّل نفسه بالكاد، رئيساً لمجلس الوزراء. وضعه على رأس حكومة حصرت مهمّتها في الإشراف على افلاس البلد.
لا شكّ أنّ «حزب الله» حقق الكثير قبل أن يفتح الأبواب على مصراعيها أمام التفاوض مع إسرائيل مع ما يعنيه ذلك من بلوغه الطريق المسدود سياسياً في غياب تغطية سنّية له يبدو حالياً في صدد البحث عنها.
جاءت المفاوضات المرتقبة مع إسرائيل تتويجاً لسلسلة انتصارات تحقّقت على لبنان واللبنانيين. بالنسبة الى ايران التي ترعى الحزب المهمّ الانتصار على لبنان وليس على إسرائيل. الانتصار على لبنان واللبنانيين يغني عن الانتصار على إسرائيل. هذا ما تؤكّده الوقائع بدءاً باحتفاظ الحزب بسلاحه بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في مايو من العام 2000، وصولا الى فرض رئيس معيّن للجمهورية على اللبنانيين، مروراً في طبيعة الحال باغتيال الحريري، أي اغتيال بيروت، ثم حرب صيف 2006 وغزوتي بيروت والجبل في مايو 2008.
كلّ هذه الانتصارات على لبنان واللبنانيين لا تغني عن طرح سلسلة من الأسئلة التي تختزل بسؤال واحد: لماذا القرار الإيراني بالسماح للبنان بالتفاوض مع إسرائيل اتخذ الآن؟ لا وجود لأجوبة محدّدة عن هذا السؤال، لكنّ اللافت أنّ إيران بدأت تشعر بأنّ العقوبات الأميركية التي انهكت اقتصادها لن ترفع غدا، حتّى لو انتصر جو بايدن على دونالد ترامب. مشكلة إيران مع الكونغرس، بمجلسيه، المتعاطف الى أبعد حدود مع إسرائيل. تبدو إيران مضطرة منذ الآن الى تقديم أوراق اعتمادها الى أي إدارة أميركية وذلك بغض النظر عمّن سيفوز في انتخابات الثالث من نوفمبر المقبل.
أمّا بالنسبة الى «حزب الله» نفسه، فيبدو انّه بدأ يطرح أسئلة تتعلّق بتفجير ميناء بيروت والتفجيرات الغامضة في ايران التي سبقت تفجير بيروت. ترافق ذلك كلّه مع تفجير وقع في عين قانا في جنوب لبنان وتهديدات اطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحدّد فيها أماكن معيّنة يقول ان «حزب الله» يخزّن فيها أسلحة ومتفجرات.
من بين هذه الأماكن، تحدّث نتنياهو عن منطقة الجناح القريبة من بيروت التي تمثّل أهمّية كبيرة للعائلات البورجوازية الشيعية الغنيّة التي جمعت معظم ثرواتها بعرق الجبين في افريقيا وغير أفريقيا.
ليست المفاوضات مع إسرائيل سوى الطريق الأقصر للمحافظة على المكاسب التي حقّقها «حزب الله» في لبنان. سيسعى الحزب الى المحافظة على هذه المكاسب حتّى لو كانت على حساب لبنان واللبنانيين نظراً الى أنّها تعني قبل أيّ شيء آخر خدمة ايران في استراتجيتها الجديدة القائمة على فتح صفحة جديدة مع اميركا من أجل التخلّص من سيف العقوبات يوما.