لم يعُد قاموس «الرعب» وأخواته من مفرداتٍ يتّسع للتوصيفاتِ المخيفةِ التي «تنهمر» على رؤوس اللبنانيين حيال الواقع المُفْجِع الذي تحوّل معه بلدُهم دولةً فاشلةً تنهار تباعاً أعمدتُها المالية والاقتصادية والصحية فيما الأزمةُ السياسيةُ تعتمل بلا آفاقِ انفراجٍ قريبٍ، هي التي تتوّج مساراً تراكمياً من اعتلالاتٍ نجمتْ من الصراع الداخلي المديد ذات البُعد الخارجي العميق.
... «قلب العاصفة»، الانفجار الكبير، الفوضى الشاملة، كارثة الفقر، شتاءٌ موحش، جوعٌ متوحش، نموذجٌ إيطالي وأكثر. عيّنةٌ من العناوين التي تفيض بها بيروت في ملاقاةِ كوابيس بدا أن السلطةَ اختارتْ التسليم بترْك البلاد تنزلق إليها بلا أي مكابح، مع ملامح «إدارةٍ فوضوية» لتشظياتها التي باتت مسألة وقتٍ يحدّده «النفاذ الرسمي» لما تبقّى من دولاراتٍ يمكن لمصرف لبنان استخدامها لتمويل استيراد المحروقات والدواء والقمح بالدولار المدعوم، وسط مؤشراتٍ إلى أن القرار برفْع الدعم (ولو المتدرّج) عن المشتقات النفطية بات بحُكم المتّخَذ مع وقف التنفيذ حتى إشعار قريب، في موازاة اتجاهٍ شبه نهائي لتحديد لائحة منتقاة من الأدوية التي ستحافظ على مظلّة الدعم.
وفيما باتت وسائل الإعلام اللبنانية والعالمية، تزدحم بالتقارير حول تداعيات رفْع الدعم الذي سيُطلق العنان لحلقة جهنّمية من التضخم المفرط والنقص في سلّة سلعٍ ستتسع تباعاً في ضوء التوقعات ببلوغ سعر صرف الدولار في السوق السوداء سقفاً يتجاوز 15 ألف ليرة في ظلّ انفلاش مظاهر التقنين في توفير البنزين في المحطات و«اختفاء» مواد غذائية لأيام، لم يَعُد اللبنانيون يأبهون للتبريرات التي تسعى وعلى طريقة «دس العسل في السم» لربْط تحرير سعر السلع الاستراتيجية إما باستباقِ شروط صندوق النقد الدولي، أو بقطع الطريق على عمليات تهريبٍ إلى سورية كبّدت «بلاد الأرز» في الأعوام الأخيرة استنزافاً متسارعاً لاحتياطات «المركزي» قدّرته أوساط مصرفية سابقاً بنحو 20 مليار دولار.
ولم يكن ينقص لبنان إلّا بروز جانب سياسي - أمني بالغ الخطورة لملف التهريب عبّر عنه تَرَسُّخ مؤشراتٍ إلى أن تَفلُّت المعابر غير الشرعية - التي غالباً ما ارتبطتْ السيطرةُ عليها بـ «الجسر الميداني» الذي يوفّر لـ «حزب الله» امتداده إلى الإقليم كحلقة مكمّلة لقوس النفوذ الإيراني - له وظيفةٌ كاسرة لقيود «قانون قيصر» الأميركي.
وفي هذا الإطار لم تهدأ تفاعلات «الباخرة - الشبح» jaguar S (المحمّلة بأكثر من 4 ملايين ليتر من البنزين) التي ظهرت قبل أيام فجأة في المياه الإقليمية اللبنانية قبالة الزهراني (آتية من اليونان) ولم يقم أحد بتبنيّها (شركة خاصة) وتبرّأت منها المديرية العامة للنفط في لبنان، و«قبض» عليها القضاء، رافضاً طلب وكيلها التوجه بها نحو تركيا خشية تعريض بيروت للعقوبات الأميركية، باعتبار أن وجهة الباخرة الأساسية كانت سورية.
وكان بارزاً أمس أن النائب العام الاستئنافي في الجنوب القاضي رهيف رمضان، أوقف الوكيل البحري للباخرة (ذُكر انه من صيدا) وقبطانها (كشفت تقارير أنه من الجنسية الاذربيجانية) على ذمة التحقيق، فيما أشارت وكالة الأنباء المركزية إلى أن صاحب الشحنة هو من طرابلس.
وبعدما كانت معلومات أشارت بعيد «اكتشاف» الباخرة إلى أن ملكية حمولتها تعود إلى شركة «النعم» السورية، أوردت وسائل إعلام لبنانية أن التحقيقات في القضية تتركز حول إذا كانت بواخر سابقة زوّرت المانيفست للإيهام بأن وجهتها لبنان، الأمر الذي عزّز السيناريو الذي تحدّث عن أن «جاغوار إس» كانت تريد تفريغ حمولتها في منشآت الزهراني تمهيداً لنقلها تباعاً في صهاريج إلى سورية عبر المعابر غير الشرعية التفافاً على «قيصر».
وفي موازاة رصْد الوقْع الخارجي، خصوصاً في واشنطن، لأي انكشافٍ صريح لتشكيل لبنان «دفرسوار» لكسْر كمّاشة «قيصر»، وهو الملف الذي عادت معه قضية الحدود والمعابر الشرعية وغير الشرعية إلى الضوء الذي لم يخبُ أصلاً عنها منذ الانفجار الهيروشيمي في مرفأ بيروت قبل شهرين ونيف الذي لم يتكشّف بعد لغز باخرةِ نيترات الأمونيوم التي شكّلت «صاعقه»، فإن تَرقُّباً لا يقلّ وطأة يسود لأبعاد الهبّة الانفراجية على مسار الترسيم البحري بين لبنان واسرائيل الذي تنطلق المفاوضاتُ حوله في 14 الجاري بوساطة أميركية (سيمثّلها حضور الديبلوماسي ديفيد شينكر) وبرعايةٍ أممية (في الناقورة).
وفي حين تَمْضي أوساط فريق 8 آذار الذي يشكّل «حزب الله» رافعته في إشاعة مناخاتٍ بأن ملف الترسيم وتوقيت الإفراج عنه يرتكز على خلفياتٍ إقليمية تتصل بالتحضير لـ «توسعة الكوع» في طريق العودة بالصراع الأميركي - الإيراني بالحدّ الأدنى إلى ضوابطه الناعمة وبالحد الأقصى إلى تسويةٍ متوازنة، فإن هذه القراءة التي توحي بـ «مقايضات ضمنية» تبدو حاضرةً في كواليس أزمة تأليف الحكومة الجديدة في ظل استشعارٍ بأن الائتلاف الحاكِم يسعى لجعل «الخطوة إلى الوراء» تسهيلاً لانطلاق قطار الترسيم البحري بمثابة «غطاء» لتمرير شروطه حكومياً عودةً إلى تشكيلة سياسية بالكامل (حكومة وحدة وطنية) أو تكنو - سياسية وفق مقترح الرئيس نجيب ميقاتي، وهو ما يتناقض مع الأسس التي وضعها الخارج وعبّرت عنها النسخة الأولى من المبادرة الفرنسية (أطاحها اعتذار الرئيس المكلف مصطفى أديب قبل 11 يوماً) لحكومة اختصاصيين مستقلّين لا تسميهم القوى السياسية.
ولم تتوانَ الأوساط المطلعة عن الحديث عمّا يشبه «الحرب النفسية» التي أطلقها فريق 8 آذار في هذا الإطار وعزّزها أيضاً الكلام عن «حكومة مواجهة محتملة» على شاكلة حكومة الرئيس حسان دياب المستقيلة ومحاولة دقّ إسفين بين نادي رؤساء الحكومة السابقين (يضم الرؤساء سعد الحريري وتمام سلام وفؤاد السنيورة وميقاتي) ورمي كرة انطلاق مسار التكليف والتأليف في ملعبهم عبر الإيحاء بترقُّب إذا كانوا سيكرّرون تجربة تسمية مرشح لرئاسة الحكومة، مع تسريباتٍ متوازية بأن ميقاتي «مقبولٌ» وأن لا موانع أمام عودة الحريري، وسط توقعات بأن الصورة ستتضح تباعاً مع إطلالتيْن مرتقبتيْن اليوم للأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله، وغداً للحريري الذي سيكون له أول كلام مفصّل منذ ترشيح أديب والإطاحة به عبر شروط الثنائي الشيعي (التمسك بوزارة المال ميثاقياً والإصرار على تسمية الوزراء الشيعة).
وإذ كانت أوساط الرئيس ميشال عون توحي بإمكان تحديد موعد للاستشارات النيابية لتكليف رئيس للحكومة الأسبوع المقبل وهو ما شكّكت أوساط سياسية بإمكان حصوله في ظلّ ربْط عون مساريْ التكليف والتأليف رغم اعتراضاتٍ يُرجّح أن تبدأ بالظهور على ما يعتبره المكّون السني مصادرةً لدور الرئيس المكلف وإخضاع تسميته لـ «امتحانات» مسبقة، لم يهدأ «تسونامي كورونا» الذي «يحلّق» فوق الألف إصابة يومياً مع تسجيل نسبة في النتائج الايجابية على عدد الفحوص (الاثنين) تجاوزت 20 في المئة، وهو ما دفع رئيس لجنة الصحة النيابية عاصم عراجي لإعلان «وصلنا إلى السيناريو الإيطالي وأخاف أن نصل إلى سيناريو أخطر».