رحل صباح الأحمد... رحل أمير الإنسانية... هذا اللَّقب الذي أحَبه... رحل صباح الابتسامة العفوية غير المصطنعة... رحل الرجل الذي أحب شعبه فبادلوه نفس المشاعر... أحبهم فأحبوه... تألَّم وعانى من أجلهم، وتحامل ليبقى قوياً شامخاً، رغم عمره المديد الذي خدم فيه الكويت... تعبٌ وشقاءٌ وتضحيات قدَّمها صباح الأحمد، في طريق بناء الكويت الحديثة، إلا أن معاناته الطويلة مع المرض وصلت إلى نهاية الطريق في يوم الثلاثاء (29 سبتمبر 2020)، ليرحل صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت، إلى الرفيق الأعلى، تاركاً وراءه شعباً لن ينساه، لتواضعه الجم، وشخصيته المُلهِمة، التي أبهرت العالم بإنسانيتها وديبلوماسيتها.

جمعتني مع الأمير الراحل الكثير، من المواقف والذكريات والحكايات الطريفة في قصر دسمان بالكويت، وفي المؤتمرات والاجتماعات التي كنت أحضرها، بوجوده رحمه الله بحكم عملي بمكتب سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة وزير خارجية مملكة البحرين آنذاك، ومرافقتي لسموه في أسفاره الرسمية لحضور الاجتماعات العربية والدولية، وبحكم علاقة الصداقة الوطيدة التي تجمعني بأخي الشيخ مبارك جابر الأحمد الجابر الصباح، الذي كان مديراً لمكتبه آنذاك.

فمنذ بداية عملي في وزارة الخارجية، واحتكاكي المباشر بوزراء خارجية دول مجلس التعاون، عشتُ وتعاملتُ وتعلَّمتُ من وزراء الخارجية المؤسسين للمجلس، وعلى رأسهم صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح طيَّب الله ثراه، فهو بحقّ أمير الإنسانية وفارس المهمات الصعبة، وهو الذي أخذ على عاتقه- مذ كان وزيراً للخارجية في ستينيات القرن الماضي- وضع أُسس السياسة الخارجية الكويتية، القائمة على مبدأ تشجيع الحوار للوصول إلى حلول توافقية وتسوية الخلافات بالوسائل السلمية بين الدول العربية، وهو ذات النهج الذي سار عليه سموه في الأزمة الخليجية (نوفمبر 2014)، ليعود سموه مجدداً ليواجه منفرداً عاصفة جديدة هَزَّت كيان مجلس التعاون، وسط ظروف صعبة ومعقَّدة، وليتوسَّط خلال فترة زمنية قصيرة جداً، ويقوم برحلات مكوكية تتطلَّب جهوداً جبارة، لحل خلافات حسَّاسة ومتراكمة.

فالحرص على تثبيت أسس الأمن الخليجي وركائزه، دفع حكيم العرب، رحمه الله، نحو التحرّك الفوري لاحتواء الأزمة، ووقف النزيف، الذي لطَّخ تاريخ العلاقات الخليجية الأخوية، انطلاقاً من الرؤية الثاقبة لسموه، وارتياح قادة دول المجلس، وتقديرهم العالي للدور المحوري الذي يقوم به، رحمه الله، لرأب الصدع ولمّ الشمل الخليجي، وحماية منظومة مجلس التعاون ووحدتها.

فقد كان رحمه الله ديبلوماسياً فذَّاً، علَّمته الأحداث السياسية، أهمية إعطاء، التهدئة والحلول التوافقية للخلافات، وقتاً بين الدول، فتوسَّط لحل العديد منها منذ كان وزيراً للخارجية، فكان بحق (رجل السلام)، ورغم كبر سنّه إلا أنه لم يجعل المرض يعيق حضوره للمؤتمرات، في أيّ بقعة من بقاع العالم.

وإن التاريخ ليذكر الدور المحوري المهم، الذي قام به أمير الإنسانية رحمه الله، عند تأسيس منظومة مجلس التعاون، حيث قام ورفيق دربه سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة- وزير خارجية البحرين آنذاك، ووزراء خارجية دول المجلس- على إعداد الدراسات الخاصة بإنشاء المجلس، لتوحيد صفوف الإمارات الخليجية ومواقفها تجاه التهديدات الإيرانية والعراقية، فعُقدت العديد من الاجتماعات التحضيرية لبحث النظام الأساسي، للمجلس بين (الرياض والطائف وخميس مشيط)، حتى وقّعه القادة المؤسسون في مدينة أبوظبي بتاريخ 25 مايو 1981.

لقد كان للأمير الراحل مكان عميق جداً، في قلوب الشعب الكويتي، بمختلف أطيافه وفئاته وطوائفه، وكيف لا وهو الذي تحامل وتألَّم وعانى وضحَّى، طوال حياته، التي تقلَّد خلالها العديد من المناصب، وتولَّى العديد من المهمات الجسام، في سبيل أن تبقى الكويت شامخةً آمنة متماسكة قوية، رغم خطورة الأوضاع والأحداث التي مرَّت على تاريخ الكويت، وكان أكثرها خطورة غدر الجار اللصيق، ووقوف عدد من الدول العربية مع الغدر، وقيادته للمهمة الشاقة من أجل تحرير دولة الكويت وبنائها من جديد.

ومعروف عن سموه رحمه الله حبه الكبير للبحرين، فكان دوره أساسياً في تقديم الخبرات الديبلوماسية الكويتية لكوادر وزارة الخارجية البحرينية، حيث استقبلت وزارة الخارجية الكويتية عدداً من الديبلوماسيين البحرينيين في المعهد الديبلوماسي الكويتي، لتلقّي علوم السياسة والديبلوماسية، وكيفية إدارة المفاوضات، وبحث ودراسة الاتفاقيات القنصلية والقانونية، كما عمل عدد من الديبلوماسيين البحرينيين في بعض البعثات الكويتية بالخارج، كجزء من برنامج التدريب الديبلوماسي العملي.

وكانت تجمعه بسمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة، علاقة أخوة وصداقة حميمة، عبَّر عنها سمو الشيخ محمد بكلمات مؤثرة، لها دلالات عميقة، عندما قال: (افتقدنا قائداً حكيماً، ورجل السلام والتآخي، ذلك هو صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، عنوان الحكمة وأمير السلام، الذي عرفته عن قرب، وشهدتُ مواقفه الإنسانية والوطنية المشرفة).

كما جمعت سموه بمدينة نيويورك علاقة حب كبيرة، فكان مقرّ سكنه الدائم في جناح (A30) في فندق (Waldorf Astoria)، الذي يعتبر أعظم فنادق المدينة التي لا تنام، حتى قامت إدارة الفندق بتسمية ذلك الجناح باسم سموّه، لعلاقته الوثيقة بهذا الفندق العريق، الذي لم يسكن غيره منذ استقلال دولة الكويت، وتشاء الأقدار أن يرحل عن هذه الدنيا، ليس بعيدا عن المدينة التي أَحب! ماذا يمكن أن أكتب عن أمير الإنسانية؟ إنني عاجزٌ عن الكتابة، وأشعر بأن القلم يقف حائراً عند كل كلمة أكتبها... فهذا الرجل العظيم فوق الكلمات والسطور... فوق الحكايات والقصص... فوق التاريخ والأحداث... فصباح الأحمد كان صانعاً للتاريخ... صانعاً للحب حوله من أجل الآخرين، لذا فإن الكتابة عنه وعن شخصيته وأدواره في تاريخ الكويت وتاريخ العالم والشعوب، يجب أن تكون مختلفة! إليه أقول: وداعاً... فقد جفَّت الأقلام وطويت الصحف، بعد أن رحل صانع الحب ورجل التاريخ، رحل تاركاً أشقاءه في مجلس التعاون يواجهون الأزمة الخليجية دون (صباح الأحمد)، وهو الذي كرَّر على مسامع الجميع، بأن أمنيته أن تُحلّ الأزمة قبل أن يرحل... فوداعاً من القلب يا صباح الأحمد... وداعاً للابتسامة التي سكنت قلب الكويت وشعبها الأصيل.

* المحلل السياسي للشؤون الإقليمية ومجلس التعاون