باغَتَ إعلانُ انطلاقِ العدّ العكسي لبدء المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية غير المباشرة بوساطة أميركيةٍ حول ترسيم الحدود البحرية المشهدَ السياسي في لبنان «المستسْلم» أمام استعصاءِ أزمةِ تأليفِ الحكومة العتيدة على أيّ حلولٍ من «حواضر البيت» الداخلي بعد انتكاسة المبادرة الفرنسية.

وشكّل كشْفُ رئيس البرلمان نبيه بري، أمس، عن الاتفاقِ الإطار الذي يرسم الطريقَ للمُفاوض اللبناني لترسيم الحدود «البرية والبحرية» مع إسرائيل برعاية الأمم المتحدة وترحيب واشنطن بـ«الاتفاقية التاريخية» و«قرار حكومتي إسرائيل ولبنان بدء مناقشات حول الحدود البحرية»، مفاجأةً غير مفاجئة في التوقيت إذ كانت متوَقَّعة، ولكنها أشاعتْ مناخاتٍ تشي بمتغيّرات وتراجُعاتٍ وربما مناورات.

وجاء هذا التطور مدجّجاً بالمفارقات في المضمون وفي سرعة دخوله على خط «الحساسيات» الداخلية، والأهمّ أنه بدا من الصعب فصْل خلفيّاته المتعدّدة البُعد عن الصراع الأميركي - الإيراني وحسابات اللاعبين الإقليميين والمحليين، لجهة شقّ «خط أبيض بارد» مع مرحلةٍ ما بعد الانتخابات الأميركية أياً كان الفائز فيها (إيران)، و«فتْح حسابٍ» يتصل بالانتخابات الرئاسية اللبنانية عبر «الانحناء أمام عاصفة» العقوبات الأميركية من ضمن «هنْدسةٍ» للأدوار لا يبدو «حزب الله» بمنأى عنها، هو الذي بات حليفاه المسيحي (فريق الرئيس ميشال عون) والشيعي (بري) تحت مقصلة لوائح واشنطن السوداء.

ولم يكد أن يجفّ حبرُ إطلالةِ «تسليم الشُعلة» من بري الذي أعلن انتهاءَ دورِه عند عتبة الاتفاق - الإطار، حتى تدافعتْ الأسئلةُ عن سرّ «لعب هذه الورقة»، التي أدارها على مدى عقدٍ من الزمن الثنائي الشيعي بري - «حزب الله» على طريقة «الوكيل الحصري» لها، في هذا التوقيت الذي يصبّ في النهاية في «صندوقة المكاسب» الانتخابية للرئيس دونالد ترامب الذي يُراكم نقاط انطلاق مسار التطبيع العربي مع إسرائيل ليُلاقيه لبنان بقطارِ المفاوضات البحرية التي توصل إلى اتفاقية ترسيم توثق في الأمم المتحدة وتكرّس الاعتراف بـ«إسرائيل»، في حين تطايرتْ القطب المخفية بين سطور الاتفاق الذي أعلنه رئيس البرلمان اللبناني والتي «لم تصمد» طويلاً بعدما أزاح الغبار عنها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، قبل أن ترتسم سريعاً خطوط التسابق اللبناني على «أبوة» هذا «الإنجاز» والإمرة لمَن في مرحلته التنفيذية.

وفي هذا الإطار استوقف أوساطاً مطلعة أن بري حرص وفي «التمهيد» قبل تلاوته الاتفاق الذي حمل عنوان «الاتفاق الإطار العملي للتفاوض حول ترسيم الحدود البحرية والبرية في جنوب لبنان» على التذكير بتلازُم المساريْن براً وبحراً بما أوحى بأن هذه النقطة التي كانت ترفضها تل أبيب نجحتْ بيروت في انتزاعها، قبل أن يكشف بومبيو أن بلاده تتطلّع إلى «محادثات منفصلة على مستوى الخبراء لتحديد القضايا العالقة المتعلقة بالخط الأزرق والتي تُعدّ خطوة إيجابية أخرى لتحقيق الاستقرار الإقليمي»، تاركة هذا المسار في عهدة «التجربة الإيجابية للآلية الثلاثية (الجيشان اللبناني والإسرائيلي عبر اليونيفيل)»، وذلك بعدما رحّب «بقرار حكومتي إسرائيل ولبنان ببدء مناقشات حول الحدود البحرية»، مشيراً الى أن «هذه الاتفاقية التاريخية توسّطت فيها الولايات المتحدة»، ولافتاً إلى أن «هذا الاتفاق يؤمن للجانبين إطار عمل مشتركاً للمناقشات البحرية لبدء المناقشات التي من شأنها أن تؤدي إلى مزيد من الاستقرار والأمن والازدهار للمواطنين اللبنانيين والإسرائيليين على حد سواء»، ومؤكداً أن «إعلان اليوم خطوة حيوية إلى الأمام تخدم مصالح لبنان وإسرائيل والمنطقة والولايات المتحدة».

وذكر بومبيو أن «البلدين طلبا أن تشارك الولايات المتحدة كوسيط ومسهّل في المناقشات البحرية»، مشدداً على أن «الولايات المتحدة تتطلع إلى بدء مناقشات الحدود البحرية قريباً، والتي ستعقد في الناقورة تحت علم الأمم المتحدة، وسيستضيفها موظفو مكتب منسق الأمم المتحدة الخاص لشؤون لبنان(UNSCOL)».

وعند النقطة نفسها أي فصل المسارين البري والبحري تقاطع بيانان صدرا عن وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتز الذي أعلن «أن إسرائيل ولبنان سيجريان محادثات بوساطة أميركية حول الحدود البحرية بين البلدين ومن المتوقّع إجراء المحادثات بعد عطلة عيد العرش (السوكوت) اليهودي التي تنتهي في التاسع من الجاري»، كما عن قيادة «اليونيفيل» التي «رحّبت بإعلان اتفاق الإطار لإطلاق مفاوضات بين لبنان وإسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، ونحن على استعداد لتقديم كل الدعم الممكن للأطراف وتسهيل الجهود لحل هذه المسألة».

وبدا من الصعب بحسب الأوساط المطلعة مقاربة هذا «الخرق» في ملف ترسيم الحدود مع إسرائيل من خارج سياق «مفاعيل» العقوبات الأميركية التي كانت استهدفت قبل أسابيع قليلة لصيقين بالرئيس بري وأحد حلفاء «حزب الله» المسيحيين وسط ترجيحاتٍ بأن «الدور» اقترب من رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل.

وإذ كانت بعض الدوائر في بيروت تشير إلى أن سيف العقوبات سيبقى مصلتاً على مسار التفاوض حول الترسيم البحري بهدف استدراج تنازلاتٍ من الجانب اللبناني، فإن الأوساط المطلعة نفسها رجّحت ألا تتراجع واشنطن عن الضغط الأقصى بالعقوبات على إيران و«حزب الله» بعدما لمست أن تَشَدُّدها يفعل فعله، وأنها ستحاول تجيير أي خرق في هذا الملف لجيب الدولة اللبنانية والحؤول دون استثماره من الحزب وراعيه الإقليمي، وسط ملاحظة هذه الأوساط أن «حزب الله»، قد يكون حرّك ورقة الترسيم الآن في إطار رغبة إيران في حجْز بطاقة مرورٍ تسهيلية لمرحلة ما بعد 3 نوفمبر الأميركية وفي الوقت نفسه ترْك هامش مناورة لحلفاء الحزب للإفلات من عصا واشنطن على أن يأخذ هو «بصدره» العقوبات التي تعوّدها.

على أن الإشارات الأولى التي أعقبت إعلان الاتفاق حملتْ حساسياتٍ تشي بكباشٍ على خط عون - بري قد يترك انعكاساتٍ على الأزمة السياسية في البلاد المتروكة للانهيار المالي - الاقتصادي المتوحّش.

فالمكتب الإعلامي للرئيس عون تعمّد ما يشبه «التجاهل» لبري عبر الترحيب «بالإعلان الذي صدر عن وزير الخارجية الأميركية عن التوصل الى اتفاق إطار للتفاوض على ترسيم الحدود برعاية الأمم المتحدة وتحت رايتها، وبوساطة مسهّلة من واشنطن»، ومظهّراً إحدى نقاط التجاذب التي طبعت مجمل هذا الملف في مراحله السابقة، وموجهاً رسالة بأن «الأمر لي» في ما سيلي.

وأعلن «أن رئيس الجمهورية سيتولى المفاوضة وفق أحكـام المادة 52 من الدستور، بدءاً من تأليف الوفد اللبناني المفاوض ومواكبة مراحل التفاوض، آملاً من الطرف الأميركي في أن يستمر في وساطته النزيهة».

ولم تقلّ دلالة تغريدة باسيل الذي أعلن «اليوم يبدأ لبنان مرحلة جديدة من استعادة حقوقه، ولكن بالتفاوض هذه المرّة... إذا كان اتفاق الإطار تطلّب كل هذا الوقت والجهد والتضامن الداخلي والتعاون الإيجابي من المعنيين، فكيف باتفاق الترسيم واتفاق التقاسم؟».

وشدد على أنه «هذه المرة علينا أن نفاوض لا على الطريقة الفارسية ولا على الطريقة العربية، بل على طريقتنا اللبنانية، صلابة ومرونة... صلابة بالتمسّك بالحقوق ومرونة بالعلم والحلول».

وكان بري ذكّر في إطلالته بحضور وزيرة الدفاع في حكومة تصريف الأعمال زينة عكر وقائد الجيش العماد جوزف عون وقائد اليونيفيل ستيفانو دل كول وممثلة المنسق الخاص للامين العام للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش نجاة رشدي بمسار الأعوام العشر لهذا الملف توصلاً للاتفاق الإطار، لافتاً إلى أن «لبنان تمسك ومتمسك بوضع إطار للمفاوضات يقوم على تفاهم أبريل 1996 وقرار مجلس الأمن 1701 وتلازُم المسارين براً وبحراً بحيث لا ينفذ أي محضر براً أو بحراً إلا بتوقيع الأطراف وخاصة الطرف اللبناني».

وإذ قال «لسنا أمام اتفاق نهائي بل هذا اتفاق إطار يرسم الطريق أمام المفاوض اللبناني الذي يتولاه الجيش اللبناني بقيادته الكفوءة وضباطه ذوي الاختصاص برعاية فخامة رئيس الجمهورية وأي حكومة عتيدة بعد اليوم فقد انتهى عملي»، تلا نص الاتفاق وفيه أنه «تدرك الولايات المتحدة أن حكومتي لبنان وإسرائيل مستعدتان لترسيم حدودهما البحرية كما يلي: الاستناد إلى التجربة الإيجابية للآلية الثلاثية الموجودة منذ تفاهمات أبريل 1996 وحاليا بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1701، التي حققت تقدما في مجال القرارات حول الخط الأزرق (...) وان ممثلي الولايات المتحدة والمنسق الخاص للأمم المتحدة لشؤون لبنان مستعدان لإعداد محاضر الاجتماعات بصورة مشتركة، التي ستوقَّع من قبلهما وتقدم الى إسرائيل ولبنان للتوقيع عليها في نهاية كل اجتماع (...) وحين يتم التوافق على الترسيم في نهاية المطاف، سيتم إيداع اتفاق ترسيم الحدود البحرية لدى الأمم المتحدة عملا بالقانون الدولي والمعاهدات والممارسات الدولية ذات الصلة».

وأضاف: «عند التوصل إلى اتفاقيات في المناقشات بشأن الحدود البرية والبحرية، سيتم تنفيذ هذه الاتفاقات وفقاً للتالي: على الحدود البرية، في ما يتعلق بالخط الأزرق: بعد التوقيع من لبنان، وإسرائيل، واليونيفيل. وعلى الحدود البحرية، امتداداً إلى الحد البحري للمناطق الاقتصادية الخاصة للأطراف المعنية سيتم مخرجات المناقشات النهائية للمحادثات المتفق عليها للبنان وإسرائيل لتوقيعها وتنفيذها»، وتابع: «تعتزم الولايات المتحدة بذل قصارى جهودها مع الطرفين للمساعدة في تأسيس جو إيجابي وبناء مع الطرفين والمحافظة عليه، من أجل إدارة المفاوضات المذكورة أعلاه واختتامها بنجاح في أسرع وقت»، وهي العبارة التي عكست عدم نجاح تل أبيب في تحديد فترة 6 أشهر كانت تريدها لإنهاء المفاوضات.