كم هي صغيرة في حجمها، وكم هي دقيقة في تفاصيلها، تتسع وتضيق، تبهر وتنبهر، تسحر وتنسحر، مجردة بقدر بعدها عن التجريد... فأوصافها لم تصب مقتلاً كما هي بنفاذ بسهامها. هذه قصة العين التي تجوب الأماكن الواسعة، وهي ساكنة في محجرها، فيسيل صاحبها، ان أراد وتأثر، تلك المشاهد الى كلمات حبكت جماليتها رؤية مبدعة.«بعيون عربية» طرقت «الراي» أبواباً موصدة لخصوصيتها في الشرق والغرب، في مصر، المغرب، الجزائر، موريتانيا، الســـودان، اليمـــن، تركيـــا، فرنســـا، بريطانيــا، وكوبا، فلم يحرقها قيظ الصحراء ولم ينل منها برد الطقس وبعد السفر. كانت العين تتنقل بين جماعات وأشخاص أثارت قضاياهم الجدل، فتلخص ما تغرفه من بحر المعاينة، لتنسكب لحظات للذكرى. كل له مشكلته، كل له طريقة حياة، كل يستحضر التاريخ، وكل يفتش عن المستقبل والأمل وشذى الحياة. جماعات وشعوب تبحث عن هويتها وسط العولمة، أحياناً تحمل السلاح، لعل في لغة البارود حلاً بدلاً من لغة الحوار، لكن غالباً من دون جدوى. ومن بين ثنايا المشاكل تظهر الجماليات، فالمقلب الآخر للأزمات قصص تنبض بالحياة. كم هذا الانسان عظيماً عندما يطلق العنان للابداع، وكم هو ضعيفاً عندما يترك المشاكل تقيده بأصفادها. لكن يبقى لكل انسان، ولكل جماعة، فلسفة خاصة في الحياة. ولذلك تعرض «الراي» على حلقات تفاصيل رحلتها بين الأماكن التي يجمعها الانسان وتفرق بينها القضايا والحدود.
موريتانيا تخرج من النسيان العربي بلحظة... قوة
| نواكشوط - من سامي كليب |
لا حاجة لإجراءات كثيرة بغية الحصول على تأشيرة الى موريتانيا، فبلاد الشنقيط العريقة في التاريخ العربي والاسلامي، والمنسية في تاريخنا المعاصر جهلاً أو تجاهلاً، لم يعد لديها ما تخشاه من الصحافيين. فتحت موريتانيا أبوابها واسعة لرياح التغيير الديموقراطي، وفتحت أيضا باب الأسئلة عما اذا كان التغيير موقتا أم أنه بات سنونوة قد تبشر بربيع عربي طال انتظاره. صدق الرئيس أعلي ولد محمد فال، ووفى بوعده. قال بعد انقلابه على الرئيس معاوية ولد الطايع، أنه سيسلم السلطة الى المدنيين في أعقاب انتخابات نزيهة. سلمها فعلاً للرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله.أشياء كثيرة تتغير بسرعة في نواكشوط، العاصمة التي تعددت تفسيرات اسمها، فالبعض يقول انها تعني شاطئ الأصداف وأن اصل الاسم بربري، والبعض الآخر أخذه الخيال الى حد القول انها تعني نوق الشط نظراً إلى كثرة الجمال فيها، والبعض الثالث فسرها بأنها بئر الأحجار الكريمة، ولكن يبدو ان التفسير الأول هو الأكثر صدقاً. تغيرت اشياء كثيرة في نواكشوط لأن ما حكي عن اكتشافات نفطية جذب كالمعتاد، شركات أجنبية ومستثمرين حالمين بأن تصبح موريتانيا يوماً ما كويت افريقيا، أو لما لا دبي أفريقياً. لكن الوعود النفطية لا تزال اقل من الآمال المعقودة عليها. والمال موجود أصلاً في موريتانيا، وكل تلك الأوهام والافكار الخاطئة التي شغلت صحافة المشرق العربي، والتي كانت تصف موريتانيا بالفقر وبلاد الرمال، قد بنيت في الواقع على جهل او قلة معرفة، فموريتانيا ليست اكثر فقراً من أي دولة عربية أخرى، وفيها ما في الكثير من دول المشرق والمغرب العربي، بحيث إن الغنى الفاحش قد يجاور الفقر المدقع، ولكن الفارق الوحيد هو أن طباع الموريتاني، لا تحبذ، على الأقل حتى الآن، التمظهر بمظاهر الغنى، وأنماط الفخامة والتفخيم لم تدخل بعد عادات هذا المجتمع العربي الأصيل.وفي موريتانيا، قلما تجد أمراة خصوصا من «البيضان» تعمل في المنزل، فكل امراة لديها خادمة أو أكثر، بحيث إن المرأة الموريتانية تكاد تبذ كل نظيراتها في العالم لكثر ما تتمتع به من احترام ومكانة ورفاهية، وويل للرجل الذي يهين امراة أو يحاول تجريحها، فالمجتمع بأسره قد ينبذه. ولأن المال موجود، فإن الكثير منه يتحرك عادة في الحملات الانتخابية، وهو ما يتسلح به البعض للقول إن نجاح الرئيس ولد الشيخ عبدالله ما كان ليتم لولا تعبئة رجال الأعمال والمال، ودعم مناصري الرئيس السابق معاوية ولد الطايع له. ولكن نائب رئيس البعثة الأوروبية لمراقبة الانتخابات الرئاسية الاخيرة فنسان دوهيرت له رأيه في هذه المسألة إذ يقول: «إن أمر المال ليس جديداً، والمال ضروري في الحملات الانتخابية، لأنه يجب التنقل واستخدام سيارات وشراء الوقود لهذه السيارات ووضع ملصقات وكل ذلك يكلف غالياً، فمهما كانت إذا طبيعة البلد والمسار الانتخابي لا يمكن القيام بحملة انتخابية من دون مال، وهذه معضلة عالمية وقديمة فحتى في الديموقراطيات القديمة يطرح موضوع تمويل الانتخابات، والمهم هو تنظيم ذلك».وحين يقال للمسؤول الأوروبي الذي أشرف على تلك الانتخابات إن القبلية قد تلعب في هكذا دول دوراً سلبياً للمسار الديموقراطي، يجيب: «تعلمون أن هذه أمور تتعلق بواقع الدول، فمثلاً أنا بلجيكي وفي بلادي هناك ثلاث قبائل أساسية تقريباً، إذا صح التعبير، وقد حددنا قواعد لتنظيم التساكن بين ما نسميه عندنا بالهويات الألسنية المختلفة، ولكل بلد حقيقته الاتنية والالسنية المتعددة، ونادراً ما تجد دولة موحدة النسيج شعبياً، وهذا أمر ينبغي بالتالي التكيف معه، واعتقد أن تشجيع الاحزاب وجعلها تطرح افكارا وتناقشها هو أمر اساسي ليس فقط لتقليص تأثير القبلية وإنما ايضا لتعزيز الديموقراطية الحقيقية».ولد داده رئيساً... للمعارضة الكلام عن المال، قد يسمعه زائر موريتانيا أيضا في أوسط السياسي العريق أحمد ولد داده، بحيث إن أنصار رئيس تكتل القوى الديموقراطية يتحدثون، ولو بحذر الراغب باستقرار الأوضاع لا تأجيجها، عن وسائل كثيرة استخدمت لمنع ولد داده من الفوز. والواقع أن قصة ولد داده مع السياسة والانتخابات في موريتانيا، بحاجة الى دراسة معمقة لادراك حقيقة ما حصل في الانتخابات من جهة، ولمعرفة حجم مرارة وخيبة أمل هذا القيادي البارز في كل مرة تحصل فيها انتخابات. فاحمد ولد داده المولود في صيف عام 1942، يكاد يكون السياسي الوحيد في موريتانيا الذي كلما وصلت قدماه إلى عتبة القصر الرئاسي، جاء من يشده في ثيابه الى الخلف ويقدم عليه غيره. إنه الرئيس الذي ينتخبه الشعب، فتخذله الماكينة الانتخابية والسياسية ومن يمسك بخيوط اللعبة. صحيح أن الانتخابات الموريتانية حصلت بشفافية ونزاهة وفق اعتراف المراقبين الدوليين، ولكن الصحيح أيضاً أن سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، ما كان ليفوز على ولد داده لولا الآلة الانتخابية الهائلة التي تحركت لنصرته. والأمر لا يتعلق بأشخاص وإنما بتجربة، فالرجلان يتمتعان بسمعة طيبة وبتاريخ نزيه، ولكن ولد داده قابع في قلب السياسة الموريتانية منذ عقود وعاش السجن والقمع والملاحقة، وصمد في وجه معاوية ولد الطايع في أحلك الظروف، وقدم مشاريع وافكارا سياسية كثيرة، ووظف دراسته وخبرته الاقتصادية لخدمة البلاد، بينما سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله يعتبر جديداً على المعترك السياسي حتى ولو كانت السياسة في دمه. ثم إن أحمد داده المجاهر بمواقفه القومية العربية، والذي يشغل منصب نائب رئيس اللجنة العربية لنصرة الشعب الفلسطيني، كان قد حصل على 33 في المئة في انتخابات عام 1992 رغم أنف السلطة وتزويرها الانتخابات آنذاك، ما يشير الى ان شعبية الذي اعتقل خمس مرات بين عامين 1998 و 2004 هي أكبر من أن يهزم بسهولة. ولكن الشعبية شيء والانتخابات شيء آخر، ذلك أن الذين وقفوا خلف الرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبدالله، أحسنوا تماماً تركيب التحالفات وتحريك الناخبين الكبار، بحيث إنهم ضمنوا تقريباً كل شيء لفوز مرشحهم. قد يكون الأمر صحيحاً، ولكن الصحيح أيضاً ان ولد الشيخ عبدالله له في قلوب شعبه مكانة جيدة.(راجع سيرته).يستحق إذاً ولد الشيخ عبدالله الرئاسة تماماً، كما يستحقها احمد ولد داده، ولولا وجود الثاني لكان الأول قد استقبل على الاكتاف من قبل كل شعبه، حتى ولو أن بعض هذا الشعب يعيب عليه شيئاً من الغرور والاعتداد بالنفس. لكن أنصار ولد داده يشعرون بمرارة المقتنعين بأن زعيمهم كان ينبغي ان يصبح يوماً ما رئيساً، وأن ما بشر به الرئيس فال أحيا عندهم أمل كبيرة طال انتظاره. في هذا الصدد يقول محمد ولد بهده منسق الإعلام لحملة ولد داده أثناء الانتخابات وعضو اللجنة الاعلامية في تكتل القوى الديموقراطية: «طبعاً لم نكن نتوقع الهزيمة بهذا الشكل وكان الامل كبيراً، حتى ولو اننا كنا نرى تصرفات لن تفضي الى نتيجة واقعية، وقد بدأ التزوير منذ اللحظات الأولى إذ مورست ضغوط على الناخبين الكبار من شيوخ قبائل واصحاب رأي وتم إغرؤهم بجميع المغريات لعدم التصويت لمرشحنا من جهة وللتصويت للمرشح الآخر (ولد الشيخ عبدالله). من جهة ثانية، ففي يوم واحد مثلا تم تعيين 79 شخصاً في وزارة الخارجية وحدها بغية تأييد مرشح السلطة، وكذلك الأمر في عدد من الادارات الاخرى بحيث إن كل مدير لا يساند النظام يقال. أذكر لك المدير العام لشركة الصناعة والمعادن مثلاً، فهو مارس كل الضغوط للتصويت للسيد محمد ولد الشيخ عبدالله». هذه الاتهامات الصريحة عند بعض المقربين من ولد داده، تكاد تختفي في التصريحات الرسمية لرئيس تكتل القوى الديموقراطية، إذ يبدو أنه حريص على التسويات في هذه المرحلة أكثر من عزمه على اكالة الاتهامات. وبعيداً عن الاتهام وعكسه، فإن السؤال المطروح حالياً في موريتانيا يتمحور في شأن قدرة الرئيس الجديد على الحكم، أي هامش الحرية المتمتع به حيال المؤسسة العسكرية التي قادت التغيير واطاحت بمعاوية ولد الطايع. فهل سيكون ولد الشيخ عبدالله قادراً على الحكم؟ أم أن دوره سيقتصر على التمهيد لعودة أعلي ولد فال الى الرئاسة بعد سنوات قليلة؟ الجواب يقدمه لنا الدكتور سيدي محمد ولد سيد أب الناطق الرسمي سابقاً باسم الرئيس المنتخب، ويقول: «إن المؤسسة العسكرية وكما صرح بذلك رئيس المجلس العسكري اعلي ولد محمد فال ستعود الى دورها التقليدي كمؤسسة عسكرية بحيث تنحصر وظيفتها بحماية الوطن والدفاع عنه، فهي تسلمت السلطة في ظروف كانت مصلحة البلد تستدعي ذلك واليوم يمكن ان نصدق انها ستعود الى ثكناتها». وفي رده على سؤال عما يحكى عن ان الانتخابات لو كانت نزيهة لكان ولد داده هو الفائز وليس ولد الشيخ عبدالله، يجيب ولد سيد أب: «إذا سلمنا بان الانتخابات كانت شفافة ونزيهة وأن المواطن الموريتاني كان حراً فيمكن أن نجزم بأن ما افرزته صناديق الاقتراع هو التعبير الحقيقي للشعب الموريتاني، وهذا ما شهد عليه وأشاد به جميع المراقبين الوطنيين والمجتمع المدني والمراقبين الغربيين، فحتى الآن لا توجد أي جهة شككت بنزاهة الانتخابات». المعارض برتبة وزير لم يعد المعارض في موريتانيا هدفاً للملاحقة والتنصت والتنكيل والاعتقال، وإنما صار شريكا فعلياً في السلطة، وهذه سابقة عربية بامتياز حتى ولو أن موريتانيا اقتبست جزءاً منها من تجارب دول أفريقية مجاورة كمالي او النيجر. إنه المشروع الجديد لمنصب «المعارضة الديموقراطية» الذي تم استحداثه في عز الانتخابات ووافق عليه مجلس الوزراء. وتنص المادة 6 من المشروع على استحداث منصب «رئيس للمعارضة» يمثل أطياف المعارضة في علاقتها مع الحكومة، والرئيس هو من حصل حزبه على أكبر عدد مقاعد في البرلمان. وتقول المادة 8 إن رئيس المعارضة سيتمتع بحقوق وامتيازات بروتوكولية ومادية يتم اقرارها بمرسوم، ولا تكون أقل من تلك التي يتمتع بها اعضاء الحكومة. ويؤكد مشروع القانون أن على رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء «أن يستشيرا» رئيس المعارضة في ما يتعلق بالقضايا الوطنية والقضايا الكبيرة المتعلقة بحياة الأمة، بحيث يجري لقاء كل ثلاثة أشهر. ولعل هذه الاجراءات وغيرها هي التي تجعل الجميع في موريتانيا بعد الانتخابات قابلين بالنتائج، فالواقعية السياسية والحرص على الحفاظ على الوحدة الوطنية هما العنوانان البارزان للمرحلة المقبلة، وفي ذلك قوة موريتانيا المقبلة وضعها بحيث إن تحالفات اليوم قد تتعرض لاهتزازات اذا ما بدت المصالح أهم من المبادئ في المستقبل القريب.
شفافية الاعلام إذا كان التاريخ الحديث سيدخل الرئيس الموريتاني السابق أعلي ولد محمد فال الى صفحاته المشرقة لأنه ثاني العسكريين العرب الذي يسلم السلطة الى المدنيين بعد المشير سوار الذهب في السودان، فإن التاريخ سيحفظ له أيضا النهضة الاعلامية التي حققها في خلال الفترة القصيرة التي بقي في السلطة. وإلى عشرات الصحف التي يراها زائر موريتانيا يوميا تباع عند مفترقات طرق نواكشوط، فان الانتخابات الرئاسية شهدت سابقة في ايصال اصوات الجميع الى وسائل الاعلام بحيث تم تقاسم الوسائل الاعلامية بالتساوي بين الجميع. ولهذه الغاية تم انشاء «سلطة عليا للصحافة والسمعيات البصرية» ضمت بين صفوفها نخبة من رجال الفكر والإعلام والسياسة، بينهم الاستاذ الجامعي والكاتب سيد ولد أباه الذي قال لـ«الراي»: «إن منهجنا قام على المشاورات مع ممثلي الاحزاب والمرشحين، وتوصلنا إلى صيغة تضمن المساواة بين الجميع في التلفزة والاذاعة وصحيفتي «الشعب» و«أوريزون»، وتم وضع نظام للاستماع مسبقا الى العناصر الاخبارية التي يقدمها المرشحون ولم يكن هناك اي نوع من انواع المصادرة وحصلت تغطية متوازنة في كل نشرات الاخبار بحيث يصبح الوقت متساويا للجميع، رغم أن بعض المرشحين كانوا أكثر نشاطاً من الآخرين، وكان من بين أهدافنا الاساسية ادخال الحوار السياسي». وأضاف ولد أباه: «نحن منذ البداية أكدنا أننا لسنا سلطة مصادرة وإنما سلطة تنظيم وادارة، وكان أهم شيء بالنسبة لنا تعزيز مكسب الحريات الاعلامية بدلاً من المصادرة والالتزام بمجموعة من الاخلاقيات لأن الحملة جديدة على البلد فكان واجبنا منع اي انفلات، ويمكنني القول إننا احدثنا سابقة عربية بحيث ان آخر مرشحين وهما سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، وأحمد ولد داده تنافسا عبر شاشة التلفزة أمام مئات آلآف المشاهدين». وحين يقال للمسؤول الإعلامي إن الرئيس أعلي ولد محمد فال هو الذي اختاركم، وبالتالي فالحياد يكون في هذه الحالة مثار شكوك، يجيب: «ما حصل كان مشابها تماماً لما يجري في الدول الأوروبية بحيث إن الرئيس يختار بعض أعضاء السلطة الإعلامية، والبعض الآخر تختاره الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، وبما ان المجلس والجمعية معطلان، فان الرئيس اختارنا جميعا، ولكنني استطيع أن أؤكد وبكل فخر أن أحداً لم يعترض على أي من أسمائنا التي طرحت على الأطراف السياسية كافة». (بالتعاون مع «السفير» اللبنانية)
صالح ولد حننا: أنا ناصري وإسلامي والخيانات أعاقتني عن الإطاحة بمعاوية
إذا كان ثمة شخص في موريتانيا كسر الحاجز النفسي للاطاحة بالرئيس السابق معاوية ولد الطايع، فهو لا شك الرائد السابق في الجيش والقيادي ذي الميول الناصرية والاسلامية والقومية صالح ولد محمد ولد حننا، فهو قام بما لا يقل عن ثلاث محاولات عسكرية ضد الرئيس السابق باءت جميعها بالفشل بسبب الخيانات الداخلية، ولكنها مهدت الطريق لقلب الرجل الذي حكم البلاد بيد من حديد أكثر من 20 عاماً. «الراي» التقت ولد حننا بعد الانتخابات التي حاز في دورتها الاولى على اكثر من 7 في المئة، ودعم في دورتها الثانية مرشح المعارضة أحمد ولد داده. وصالح ولد حننا الذي كان اقيل من الجيش الموريتاني عام 2001 والمولود في منطقة العيون شرق البلاد عام 1965، استهل حديثه بالتعليق الانتقادي والشاجب للانتخابات الرئاسية وقال: «كان دعمنا للرئيس أحمد ولد داده منطقيا واستمرارا لموقفنا في قوى المعارضة، لأننا كنا قد شكلنا ما سمي بائتلاف قوى التغيير الديموقراطي والذي ضم مجموعة من الاحزاب التي كانت توصف بانها معارضة للنظام السابق، واما الطرف الآخر اي الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله فإنه لم يكن منخرطا بالسياسة المحلية غير ان الجماعة التي التفت حوله هي من اركان النظام البائد، وكان من الطبيعي ان نعمل ضد هذه الجماعة». • هل تتهم الرئيس الجديد بانه امتداد لمعاوية ولد الطايع؟ - أعتقد ان الكتلة التي التفت حوله في الشوط الاول والتي حصل عبرها على 24 في المئة كانت من رموز النظام البائد، وهذا ما شجعنا في اتخاذ موقف مبكر منه رغم احترامنا وتقديرنا لشخصه، فقناعتنا ان من التف حول سيدي ولد الشيخ عبدالله سيكون خطراً على البلاد في المستقبل تماماً، كما كان خطرا عليها في السابق. • كيف تفكرون بالرئيس الجديد؟ - ما يتوافر لدينا من معلومات يفيد بأنه شخص ذكي ورزين وحكيم واعتقد ان هذه الخصال تؤهله لأن يأخذ القرارات الخطيرة والحاسمة والتي تحرره بشكل كامل من أولئك الذين التفوا عليه خصوصا في الشوط الاول. • هل كانت الانتخابات الرئاسية نزيهة؟ - تمت الانتخابات من الناحية الفنية والتقنية بشكل شفاف، لكن من الناحية السياسية فقد سبقها جو يمكن اعتباره بحق نوعا من التزوير، فالمجلس العسكري ساهم في ترغيب وترهيب المجتمع لصالح المرشح سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، وكانت الاستقبالات شبه يومية في المجلس العسكري، وأنا نفسي تعرضت إلى ضغوط وطلب مني ان اصوت لصالح مرشح السلطة، وكذلك حصل مع الرموز التقليدية ورموز العهد البائد والناخبين الكبار، كلهم طلب اليهم ان يصوتوا للمرشح ولد الشيخ عبدالله. • هل ستتعاونون مع الرئيس الجديد؟- إن المصلحة الوطنية العليا تقتضي أن نستفيد من الاخطاء ونتجاوزها ونمد اليد لبعضنا البعض وهذا ما نأمل ان يعيه الرئيس المنتخب لكي نفتح صفحة جديدة لمستقبلنا الموريتاني المبشر بديموقراطية واعدة. • وما هي علاقة الرئيس المنتهية ولايته أعلي ولد محمد فال في هذا التدخل السلطوي لصالح سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله؟ - إن الفترة الاخيرة خاصة قبل الرئاسيات نأى بنفسه عن الرئاسيات لكن هناك اعضاء آخرين من المجلس العسكري تورطوا في الانتخابات وشاركوا فيها حتى الثمالة. • متى بدأت علاقتك بالتيار الناصري؟ - تعلمون أن فترة السبعينات كانت فترة المد القومي، صحيح انني من مواليد 1965 غير اني دخلت العمل السري وانا في الحادية عشرة من عمري تقريباً، وتأثرت تأثراً كبيراً بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فالتيار الناصري في حينها كان في أوجه في موريتانيا وخصوصاً في مدينتنا مدينة العيون بسبب وجود ثانوية كبيرة عندنا، وكانت تلك الثانوية تشكل مقرا للاشعاع الفكري. وشقيقي الاكبر كان من قادة التيار القومي الناصري. • يقال إنك اصبحت إسلامياً أكثر مما أنت ناصري مع الوقت؟- أعتقد أننا كعرب ومسلمين مررنا بمراحل عدة، والمد القومي العربي كان صالحاً لمرحلته، واليوم لا نجد أي تناقض في الربط بين المد القومي الناصري وبين الحركة الاسلامية. • هل تعتبر ان «الإخوان المسلمين» هم امتدادك الطبيعي؟- هم يعبرون عن فكرة ممتازة في عالمنا العربي والاسلامي، وانا أعتبر أنهم يعبرون عن فكري. • قمت بما لا يقل عن ثلاث محاولات فاشلة لقلب الرئيس معاوية ولد الطايع، صحيح أنها مهدت للانقلاب الاخير الذي نجح بقيادة أعلي ولد محمد فال، ولكنها فشلت في حينه ما السبب؟ - في الواقع ان الانقلاب الأبرز الذي قمنا به عام 2003 كان سيتم بشكل متقن وجيد ولكن حصلت أمور عدة اعاقت ذلك منها مثلاً أن احد الضباط وشى بنا فاضطررنا لأن نقوم بالانقلاب قبل موعده، ثم لم نستطع ان نذيع بيان الانقلاب لأننا لم نجد اي موظف تقني في مبنى الاذاعة، وكنا قد كلفنا ضابطا بان يوافينا بالمعلومات حول مقر الحرس الرئاسي فلم يخبرنا بان الرئيس معاوية غادر القصر الرئاسي واختبأ عندهم. • بدا الأمر وكأنه عمل صبياني، تماما كما كانت الحال عام 1999 وعام 2004 ففي كل مرة كان احد يشي بكم ما السر في ذلك؟- أعتقد ان الخيانات التي حصلت داخل تنظيمنا هي التي كانت السبب الأبرز، فانا استطيع ان أغفر مثلاً لضابط واجهنا، أما أن يخون أحد رفاقنا الأمانة أو يتردد في آخر لحظة، فهذا ما لا افهمه مطلقا حتى ولو أني سامحت الجميع. • هل ستنقلب مجدداً على الرئيس المنتخب لموريتانيا في حال وجدت أنه لا يلبي طموحكم؟ - (مبتسماً) لقد ولى عهد العمل العسكري ويمكننا أن نقاوم بطرق سلمية وديموقراطية، فالساحة باتت متاحة للعمل السلمي والديموقراطي. • عرفت بمواقفك المناهضة لإقامة علاقات بين موريتانيا واسرائيل، هل مازلت عند موقفك؟- إن اسرائيل هي كيان غاصب، وقد قتلت اهلنا في فلسطين ولبنان وغيرها، وانا دعوت مراراً إلى قطع العلاقات معها، وهذا موقف مبدئي طالما هي تستمر في اغتصابها للأراضي وفي قتل شعوبنا العربية.
ولد الشيخ عبدالله... الرئيس الحكيم
هو الهادئ والحازم معاً، والمتواضع والعنيد في آن. وهو الباعث على الاطمئنان ورجل التسويات، والسياسي الذي لم يجامل نظام الرئيس المخلوع معاوية ولد الطايع. هذه هي بعض الأوصاف التي يطلقها الموريتانيون على رئيسهم الجديد سيدي ولد الشيخ عبدالله.الرجل السبعيني درس الرياضيات والكيمياء والفيزياء في السنغال، ثم الاقتصاد في فرنسا. تولى مناصب وزارية عديدة في بلاده في منتصف الثمانينات، إذ كان وزير دولة للاقتصاد الوطني، ثم وزيراً للطاقة والمياه والصيد البحري والاقتصاد، قبل أن يصبح مستشاراً في الصناديق الكويتية، ومكلفاً من قبل هذه الصناديق بالعمل في النيجر في مجالات الاقتصاد والتخطيط والمال. هذه الخبرة الادارية والاقتصادية، تجعل سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله باعثاً على الاطمئنان في بلاده ذات الحاجة الماسة لنقلة نوعية في مجالات الادارة والتخطيط والاقتصاد. وإذا كان خصومه يعيبون عليه غيابه عن البلاد في السنوات الخمس عشرة الماضية، فإن أنصاره يقولون إن في بعده هذا يكمن جزء من أهميته بحيث أنه بقي بعيدا عن الصراعات والعداوات وانه بالتالي يستحق لقب «رجل التسويات» بامتياز. ومن خلال خبرته الاقتصادية الطويلة، وعد الرئيس الموريتاني الجديد شعبه، بان يوصل الناتج الداخلي الخام الى ما يقارب نسبة 8 في المئة عبر مشاريع استثمارية طموحة واعادة تعويم العملة الوطنية بحيث يصبح ضبط هذه العملة قادرا على درء مخاطر اللعب باسعارها ما يعني طمأنة الشركات الاقتصادية الكبيرة، وتشجيع الاستثمارات عبر اجراءات مصرفية، وتشجيع السياحة وغيرها... الرجل ذو النظارة الطبية والابتسامة الخجولة فوق لحية نصفية، كان قد سجن مرتين لاسباب سياسية، وتولى منصب وزير أربع مرات، فأخذ من السجن الصبر وحب الحرية، ومن الوزارات أناقة وديبلوماسية. وإذا كان خصومه يقولون ان شخصيته ضعيفة وانه لم ينجح في ادارة الشؤون التي تولاها، فان عارفيه يقولون ان خلف الضعف الظاهري للشخصية، عزما كبيرا وعنادا بحيث انه من النوع الذي لا يكسر بسهولة حتى ولو أوحى ببعض الطراوة. أما في السياسة الخارجية، فإن الرئيس الجديد يسير في سياق وسطي عام، بحيث أنه يريد مثلا اخضاع قضية العلاقات مع اسرائيل لنقاش برلماني وشعبي، ويقول ان قراره النهائي هو قرار الشعب. والواقع ان هذا الكلام الديبلوماسي لم ولن يصل الى حد المطالبة بقطع العلاقات مع اسرائيل، لأن الأمر لم يعد مطروحاً بقوة في الساحة الموريتانية حتى ولو أنه يعود في وقت الازمات الكبرى (الحرب على لبنان أو على الفلسطينيين). والجميع في موريتانيا يطالبون بإقامة دولة فلسطينية وإعادة اللاجئين وانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة حتى حدود 1976.