| سعاد العنزي |
كم هم المشغولون في المكان والزمان الذي ضاع مع ما ضاع من جراء آلة الزمن التي طحنت، جماليات الزمن الماضي، من أماكن شعبية جميلة، ومن ذكريات تفوح منها رائحة الطيبة والمحبة والتسامح، والترابط، والعجائبي والغريب، الذي يأخذه المواطن العماني بكل بساطة وسذاجة، متحولا عبر مرور الزمان إلى نادرة يتندرون بها في أحاديثهم، وكم هم الأدباء الذين يلتفتون للمكان، بوصفه، موطن النشأة، وعاء الأحداث، والخارطة المكانية لتشكل حياواتهم، وآمالهم، وأفكارهم، ودورات الزمان معهم، بل يكون المكان أيضا عنصرا مكونا في البناء والنسيج، السردي لأحداث القصة، التي يكون المكان فيها هو مدار السرد، وهو البنية الكبرى التي تنبثق منها عناصر السرد الأخرى.
هذه مدارات السرد في مجموعة العمانية بشرى خلفان «غبار»، التي رسخت نفسها بوصفها قاصة عمانية، تخرج عن المألوف، والتقليدي، لتقدم للقارئ سردا حداثيا متماشيا مع متطلبات الحداثة، ومحافظة على أصالة الأرض والهوية العمانية، التي تواجه القاصة أي محاولة لانزياحها، حتى لو كانت الثورة الحضارية والعمرانية.
فكانت مجموعة «غبار» لبشرى خلفان، محتفية بهذه الأماكن المنسية، والمندثرة في بوتقة التمدن، عبر طرق أبواب المسكوت عنه، ونفض الغبار، الذي يحيط ذاكرة المكان العماني، فلم يدون ولا يؤرخ لجماليات الأحياء الشعبية عبر السرد، ليكون غلاف المجموعة «غبار»، موازيا للنصوص المشكلة للمجموعة، من الغبار المحيط للأحياء العمانية، الذي يشي بالضبابية وعدم وضوح الرؤية الحقيقية للأشياء، فاختلطت الأمور والتبست الأشياء.
هذا الغبار التي أتى عنوانا غير مباشرا للمجموعة، مفعما في غموضه ورمزيته، فلا يعرف قصد القاصة منه، ومرجعياتها الأدبية والجمالية والمعرفية في اختياره، تتحلل دلالته في أكثر من نص من النصوص في المجموعة، فتقول في قصة «خروج» التي تبدأ بضمير المخاطب، الذي يشي بإشراكها للقارئ منذ أول متوالية السرد برحلتها إلى مسقط القديمة:
«سآخذك الليلة إلى مسقط، ولندع، لبرهة، إننا نشاهد شريطا سينمائيا أعلق عليه أنا بما رسب في الذاكرة، وتطالعه أنت باهتمام الغريب الذي يمر عادة على وجه المدينة الأكثر يسرا دون أن يكلف نفسه عناء النبش في الزوايا المغبرة والحواري الضيقة التي شكلت مصائر الكثيرين الذين يقبعون اليوم متوارين في ظلال الزمن السعيد». (ص19)
هذه الرحلة التي ترتحل بها بشرى خلفان، مع الصديق المرافق لها في سيارتها، وهو نفسه المواكب لها بوصفه قارئا ضمنيا للنص، تحيل القارئ إلى حالة نفسية معايشـــة للسرد بكل دقائقه وتفاصيله، لأنه ليس مجرد متلق عاد للنص، بل هو قارئ مشارك في خلق النص، والرحلة التي تنبهه الساردة بقولها: «اربط حزام الأمان وتوكل على الذاكرة التي سأبذلها بين يديك دون تحفظ، ولننطلق» (غبار، ص19)
(سندخل مسقط، نعم سنصعد الآن، هل ترى هذه الأبنية؟...) وغيرها من آليات الحوار، الذي لم يكن فيه غير الساردة، والمتلقي، الذي نشعر بوجوده، من مخاطبتها له، من دون أن ينبس بكلمة واحدة، ولعل تنبيه الساردة من مقطع سردي لآخر يشي للقارئ باهتمام الساردة بإشراك القارئ المرتحل معها وحرصها على تنبيهه المستمر كي لا ينسى تفاصيل الرحلة، التي تلقي عليه مسؤولية حفظ ذاكرة المكان العماني، والزمن الجميل الذي هو في طور النسيان.
* كاتبة وناقدة كويتية
بشرى خلفان، «غبار»، أزمنة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2008م.
Mobdi3on@windowslive.com
كم هم المشغولون في المكان والزمان الذي ضاع مع ما ضاع من جراء آلة الزمن التي طحنت، جماليات الزمن الماضي، من أماكن شعبية جميلة، ومن ذكريات تفوح منها رائحة الطيبة والمحبة والتسامح، والترابط، والعجائبي والغريب، الذي يأخذه المواطن العماني بكل بساطة وسذاجة، متحولا عبر مرور الزمان إلى نادرة يتندرون بها في أحاديثهم، وكم هم الأدباء الذين يلتفتون للمكان، بوصفه، موطن النشأة، وعاء الأحداث، والخارطة المكانية لتشكل حياواتهم، وآمالهم، وأفكارهم، ودورات الزمان معهم، بل يكون المكان أيضا عنصرا مكونا في البناء والنسيج، السردي لأحداث القصة، التي يكون المكان فيها هو مدار السرد، وهو البنية الكبرى التي تنبثق منها عناصر السرد الأخرى.
هذه مدارات السرد في مجموعة العمانية بشرى خلفان «غبار»، التي رسخت نفسها بوصفها قاصة عمانية، تخرج عن المألوف، والتقليدي، لتقدم للقارئ سردا حداثيا متماشيا مع متطلبات الحداثة، ومحافظة على أصالة الأرض والهوية العمانية، التي تواجه القاصة أي محاولة لانزياحها، حتى لو كانت الثورة الحضارية والعمرانية.
فكانت مجموعة «غبار» لبشرى خلفان، محتفية بهذه الأماكن المنسية، والمندثرة في بوتقة التمدن، عبر طرق أبواب المسكوت عنه، ونفض الغبار، الذي يحيط ذاكرة المكان العماني، فلم يدون ولا يؤرخ لجماليات الأحياء الشعبية عبر السرد، ليكون غلاف المجموعة «غبار»، موازيا للنصوص المشكلة للمجموعة، من الغبار المحيط للأحياء العمانية، الذي يشي بالضبابية وعدم وضوح الرؤية الحقيقية للأشياء، فاختلطت الأمور والتبست الأشياء.
هذا الغبار التي أتى عنوانا غير مباشرا للمجموعة، مفعما في غموضه ورمزيته، فلا يعرف قصد القاصة منه، ومرجعياتها الأدبية والجمالية والمعرفية في اختياره، تتحلل دلالته في أكثر من نص من النصوص في المجموعة، فتقول في قصة «خروج» التي تبدأ بضمير المخاطب، الذي يشي بإشراكها للقارئ منذ أول متوالية السرد برحلتها إلى مسقط القديمة:
«سآخذك الليلة إلى مسقط، ولندع، لبرهة، إننا نشاهد شريطا سينمائيا أعلق عليه أنا بما رسب في الذاكرة، وتطالعه أنت باهتمام الغريب الذي يمر عادة على وجه المدينة الأكثر يسرا دون أن يكلف نفسه عناء النبش في الزوايا المغبرة والحواري الضيقة التي شكلت مصائر الكثيرين الذين يقبعون اليوم متوارين في ظلال الزمن السعيد». (ص19)
هذه الرحلة التي ترتحل بها بشرى خلفان، مع الصديق المرافق لها في سيارتها، وهو نفسه المواكب لها بوصفه قارئا ضمنيا للنص، تحيل القارئ إلى حالة نفسية معايشـــة للسرد بكل دقائقه وتفاصيله، لأنه ليس مجرد متلق عاد للنص، بل هو قارئ مشارك في خلق النص، والرحلة التي تنبهه الساردة بقولها: «اربط حزام الأمان وتوكل على الذاكرة التي سأبذلها بين يديك دون تحفظ، ولننطلق» (غبار، ص19)
(سندخل مسقط، نعم سنصعد الآن، هل ترى هذه الأبنية؟...) وغيرها من آليات الحوار، الذي لم يكن فيه غير الساردة، والمتلقي، الذي نشعر بوجوده، من مخاطبتها له، من دون أن ينبس بكلمة واحدة، ولعل تنبيه الساردة من مقطع سردي لآخر يشي للقارئ باهتمام الساردة بإشراك القارئ المرتحل معها وحرصها على تنبيهه المستمر كي لا ينسى تفاصيل الرحلة، التي تلقي عليه مسؤولية حفظ ذاكرة المكان العماني، والزمن الجميل الذي هو في طور النسيان.
* كاتبة وناقدة كويتية
بشرى خلفان، «غبار»، أزمنة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2008م.
Mobdi3on@windowslive.com