| علي الرز |
كم يشبه نسيب لحود دولة بعيدة جدا من اللبنانيين. دولة هي النقيض الكامل للدويلات الموجودة حاليا مهما كانت شعاراتها توحيدية وطنية... وهي شعارات اتضح ان حدودها مزايدة ونفاق وتقية وظرفية سياسية ومصالح ضيقة.
رجل لم ييأس من سلوك طريق الحق ولو قل عدد مرتاديه. لم يتعب من زرع الامل في نفوس المحبطين من قيام جمهورية العدل والاعتدال والتوازن، لم يطلق النار على حلم عبور لبنان من المزرعة الى الدولة ومن الساحة الى الدولة ومن ورقة التفاوض الى الدولة... والاهم من ذلك كله، ربما كان من القلائل القلائل الذين اذا حدثوا صدقوا واذا وعدوا وفوا واذا اؤتمنوا جسدوا انبل صفات الامناء.
رفض نسيب لحود السياسة «على الطريقة اللبنانية» واعتبر انها مضرة بلبنان والحريات والديموقراطية وتطوير النظام والتنمية، وراهن، كمن يحفر جبلا بإبرة، على سيادة نهج جديد يفرز دينامية تحفيزية لجيل مختلف يشارك في الحياة العامة على قواعد النزاهة والصدق والشفافية وتقديم العام على الخاص ونبذ الطائفية والتقوقع والسلوك الميليشياوي الذي مارسه من يملك ميليشيا عسكرية ومن يملك زعامة سياسية على حد سواء.
كما رفض الدخول في تسويات تجعل منه جزءا من المشهد السياسي اللبناني الممسوك من الخارج والموجه من الخارج، وفي كل المحطات كان منسجما مع نفسه، بل كان السياسي الوحيد في لبنان الذي رفض من البدايات انتهاك مبادئ الدستور لتفصيلها على قياس هذه المرحلة او تلك محذرا من ان المساس بالثوابت سيجر الويلات على النظام والمؤسسات. وكان ما كان، فالتمديد للرئيس الياس الهراوي جر معه تمديدا لاميل لحود، والتمديد لاميل لحود جر البلد الى «الاستشهاد» على مذبح الملف الاقليمي... وما زلنا نمشي في الجنازة املا في قيامة دولة من بين رماد التفجير والاغتيال.
كانت شعارات ثورة الارز كلمات في قاموسه السياسي وخطوات في نهج تجربته التي خطاها واثقا خلال عقدين من الزمن. لم يكن غريبا عنها ولم تكن غريبة عنه فقد حملها على كتفيه فيما كان الآخرون يحملون رموز زمن الوصاية على اكتافهم ويهددون الداخل بسيف الخارج. وعندما استقبلت ساحة الحرية جماهير 14 آذار بدا ورفاقه مثل «أم العروس»، لكنه لم يرفع ابدا سيفا ضد احد في الداخل ولم تتغير لحظة مواقفه المعتدلة حتى وهو يرفض بكل حسم وجرأة تعايش الدولة مع سلطات اخرى تملك السلاح وتملك الجمهور.
وعندما خسر الانتخابات النيابية السابقة اعطى لخصومه قبل مؤيديه امثولة في التعاطي الحضاري. كان ما زال يبني ويؤسس لقيم سياسية واجتماعية واخلاقية اخرى غير التي جبل عليه اللبنانيون. هنأ خصمه بكل شهامة الفرسان متمنيا له التوفيق في مسيرته فيما كان خصمه «المنتصر» يتحين اي فرصة ليكيل له الشتائم والتهجمات ويحاربه بلغة شبيهة بالتي كانت تستخدم عام 1976 في السجالات بين «الحركة الوطنية» و«الجبهة اللبنانية»... كان نسيب لحود يتقدم لمستقبل متحضر فيما اخصامه يعودون ثلاثة عقود الى الوراء مستحضرين لغة الحرب الاهلية وثقافة الحرب الاهلية.
تمسك بخطه المبدئي رافضا اي مرونة على حساب الثوابت، ومفضلا التقدم بطيئا عكس السير على التقدم السريع مع موجة العابرين في اتجاه واحد. يحاور حلفاءه بالمعايير نفسها مستعرضا كل الخيارات، ويتصدى لخصومه بالمعايير نفسها مستعرضا كل الخيارات، ويناقش مع اقرب المقربين اليه في حركة التجدد الديموقراطي التي يرأسها بالمعايير نفسها مستعرضا كل الخيارات... وفي النهاية لا يسلك الا الطريق الذي يرى انه الاصلح للمرحلة حتى ولو ادى ذلك الى «استياء» الحليف و«غضب» الخصم و«عتب» بعض من في حركة التجدد.
امس، عزف نسيب لحود عن خوض الانتخابات و«عزف» غيره لحن الفرح او لحن الحزن. غالبية (بمن فيهم بعض اخصامه) شعروا بانتكاس الاستحقاق الانتخابي قبل ان يبدأ، واقلية شعرت بانها بدأت تحقق انتصارا على نهج التغيير الذي لم يستكمل. اما هو فأضاف ارباحا جديدة الى رصيده السياسي والاخلاقي فيما الخسائر تأكل ارصدة كثيرين وبينهم حلفاء له.
محطة اخرى يترجل منها نسيب لحود كي يبقى منسجما مع نفسه، صادقا مع تياره، امينا للخط الذي اؤتمن عليه. عزف عن خوض الانتخابات لانه رأى فيها اصطفافا جديدا ومنظما للتكتلات الطائفية والمذهبية وهو الذي حاز مرارا وسام العداء للطائفية والمذهبية برتبة «وطن».
كم يشبه نسيب لحود دولة بعيدة جدا من اللبنانيين...لكن الحق حق مهما اتسعت المسافة وطالت الغربة، والتغيير آت مهما كثرت الحواجز في دروب الفرسان والنبلاء.


alirooz@hotmail.com