| تعريب - قسم الترجمة |
تسعى الصحافية البريطانية ويندل ستيفنسون من خلال كتابها «مثقال حبة خردل... القصة الحميمة لجنرال عراقي وأفراد أسرته خلال 30 عاماً من الاستبداد» للإضاءة على حياة ضابط عراقي سابق كان مقرباً من صدام.
الكتاب الذي صدر عن دار «هاربر كولينز» البريطانية للنشر يحكي فصولاً من حياة كامل ساجد عزيز الجنابي الذي كان قائداً للقوات الخاصة العراقية، وكان الجنرال المسؤول عن الجيش العراقي في مدينة الكويت بعد احتلالها، كما كان أيضاً حاكماً لمحافظة ميسان العراقية.
ستيفنسون، مراسلة «الأوبزرفر» البريطانية، ألفت كتابها من خلال ما دونته على قصاصات ورقية بعد مقابلاتها مع أفراد من أسرة وبعض أصدقاء الضابط العراقي الذي تم إعدامه أيام صدام رغم خدماته للنظام، في محاولة من المؤلفة تقديم صورة عن الشر الذي كان متأصلاً في حقبة من تاريخ العراق.
«الراي» تعرض فصولاً مما ذكرته ستيفنسون، فضلاً عما نشرته بعض الصحف الأميركية والبريطانية عن الكتاب.
كان الجنرال كامل ساجد أحد الشخصيات العسكرية المفضلة لدى صدام حسين. وحسب دار «هاربر كولينز» فلقد «كان ساجد بطلاً من ابطال الحرب العراقية - الإيرانية وكان قائداً للجيش العراقي في مدينة الكويت خلال عملية عاصفة الصحراء، كما شغل منصب محافظ ميسان، وهو أب لتسعة ابناء، وعندما انجذبت المؤلفة ويندل ستيفنسون إلى قصة الجنرال ساجد، فإنها بدأت باستقصاء بعض الأسئلة عنه وعن بعض زملائه الموالين لـ(حزب البعث)، ومن بين تلك الأسئلة: لماذا خدموا مثل ذلك النظام؟ وكيف تكيّفوا مع ضمائرهم؟ وكيف كانوا يعيشون (آنذاك)؟ وكيف كانوا يتعايشون مع أنفسهم؟».
ويشير الناشر إلى أن «رحلة ستيفنسون في سبيل التوصل إلى إجابات عن هذه الأسئلة استغرقت أعواماً خمسة، واشتملت على جمع تراكمي لحقائق وآراء ومخاوف واعترافات وشكوك من جانب أسرة ساجد وأصدقائه وحتى أعدائه. والواقع ان النتيجة (الكتاب) ليست مجرد سرد آسر لقصة صعود وسقوط رجل واحد، بل تصوير حميمي وحيوي للشعب العراقي ككل. فعلى امتداد رحلة صعوده من شرطي إلى ضابط في القوات الخاصة، ثم إلى جنرال، بذل ساجد مزيداً ومزيداً من التضحيات، كي يبقى في دائرة المقربين إلى صدام حسين. ولأنه كان مخلصاً في ولائه لله ولرئيسه، فإن الجنرال ساجد شهد تنفيذ عمليات إعدام عسكرية، كما أنه تكبد مشقة دخول السجن عندما بدأت سلوكيات صدام في اتخاذ منعطفات ارتيابية على نحو متزايد تحت تأثير جنون السلطة. ولكن عندما آن الأوان لأبناء الجنرال ساجد كي يؤدوا خدمتهم العسكرية فإنه رفض أن يسمح لهم بأن ينضموا إلى تلك المؤسسة (الإجرامية) التي كان قد أعطى حياته لها. فلقد أدرك ساجد بعد فوات الأوان أنه قد أصبح أحد المشاركين في ذلك النظام الإرهابي الذي خنق دولته (العراق) ودمر شعبه».
المبدعة
ويلفت الناشر إلى أنه «من خلال سرد قصة الجنرال ساجد وقصص المحيطين به تكشف المؤلفة ويندل ستيفنسون عن الخيارين اللذين كان على العراقيين أن يختاروا بينهما أولاً، وهما التعاون مع النظام أو العيش في المنفى. وفي هذا الكتاب نرى العراقيين خلف عناوين الأخبار، كما نرى المأساة المتولدة عن العواقب غير المقصودة. كما نرى في الكتاب أيضاً أول سرد روائي مطوّل تسرده صحافية تتمتع بموهبة هائلة، وهي الصحافية التي شبهها نقاد بمبدعين من أمثال بروس تشانوين وريتزارد كابوتشينسكي».
أما ستيفنسون فتقول في مقدمة كتابها: «ذهبت إلى بغداد في صيف 2003 كصحافية مستقلة بتكليف من جريدة (الأوبزرفر) اللندنية وقضيت فترة الحرب في كردستان في الشمال، وأردت رؤية ما خلّفته الحرب ومعرفة المزيد عن أعوام حكم صدام المنغلقة. ومكثت في بغداد طوال شهر أغسطس وعدت في نوفمبر الذي تلاه لمدة 7 أشهر أخرى.
عشت في بادئ الأمر بفندق الحمراء مع زمرة الصحافيين، ثم انتقلت إلى فندق الدليمي الأرخص على الجهة المقابلة للحمراء، ثم إلى مبنى صحيفة (الغارديان) البريطانية مع حارسين مسلحين كانا يتمركزان في الحديقة. كتبت بعض الأخبار والمقالات لموقع على الإنترنت ولمجلة (الفايننشال تايمز) و(غرانيتا) واشتغلت على قصة هذا الكتاب عن طريق مقابلات - بوجود مترجم - مع عائلة ساجد وأصدقاء وزملاء له. كنت مهتمة بقصة جنرال عراقي كمدخل لقراءة قصة ما حدث في العراق، ليس فقط من وجهة نظر ضحايا هذا النظام، ليس من وجهة نظر من شاركوا فيه. ودوّنت مقابلاتي في مذكرات وملاحظات وفقرات على حاسبي المحمول».
وتضيف: «غادرت بغداد في يونيو 2004 منهكة بفعل العنف والتوتر، لكن بنية العودة بعد عطلة جيدة. وخلال صيف ذلك العام اختطف اثنان من أصدقائي وأُطلق سراحهما بعد أيام قليلة، ولكن من أحاديثي مع زملائي في العراق بدا واضحاً أن أسلوب عملي والقيادة في بغداد في سيارة عادية مغطية رأسي بغطاء رأس لإخفاء شعري الأشقر، لكن من دون حراس أو أسلحة أمر فيه خطورة متزايدة. وعدت بالفعل لمدة أسابيع خمسة في يناير وفبراير من العام 2005 لتغطية أول انتخابات وللبحث عن قصص أخرى ولمعرفة ما حدث مع آل ساجد. لكنني وجدت هذه المرة أن حوادث الاختطاف قد زادت وظهر أن الأجانب هم المستهدفون من قبل رجال العصابات والمقاومة على السواء. كان 70 في المئة من بغداد محكومة برجال مسلحين، وهناك الكثير من المفاوضات تدور والاشتباكات المسلحة تدور رحاها بصورة يومية. لهذا تخفيت مرتدية عباءة سوداء كبيرة وأقود سيارة عادية كأحد الأساليب الحذرة لزيارة أناس غير معلومين، ولم أكن أمكث في مكان واحد لأكثر من ساعة أو ساعتين.
مارلا رزيقة التي أسست منظمة غير ربحية تعمل لتعويض العراقيين عن أضرار الحرب الأميركية قتلت مع زميل لها عراقي بواسطة سيارة ملغومة. وفي العام الذي تلاه اختطفت جيل كارول التي كانت تعمل لحساب جريدة (كريستيان ساينس مونيتور)، وطال اختطافها لأشهر مع مترجمها. كما قتل آلان أنويا الذي قابلته عام 2003 - وكان شاباً يافعاً ورائعاً - وكان ذلك في كمين. وقد جمعتني بمارلا وجيل ذكريات جميلة في فندق بابيلون».
الفكرة
وتتابع: «منذ صيف عام 2004، وحتى تاريخ كتابة هذا الكتاب، لا أعتقد بأن أي صحافي غربي دار في شوارع العراق (باستثناء كردستان) ليجلس على قهوة أو ليذهب لمطعم أو ذهب للتبضع مثلي. وعندما كنت أتحدث للزملاء الصحافيين أثناء زياراتي كان من الواضح بأنهم كانوا مقيدين بالمباني التي يمكثون فيها والمحاطة بحرس، أما ما كان ينقل عما يحدث بالأذن والعين فكان العراقيون يقومون بهذه المهمة. وحتى نقل هذه الأحداث بواسطة الزملاء العراقيين فكان أمراً بالغ الخطورة في عام 2006 خصوصاً وهم يحملون الكاميرات أو مذكرات علناً. لهذا فقد تحوّلت بعد عام 2005 لإجراء بحث بين اللاجئين العراقيين التي تزايدت أعدادهم في لندن وبيروت ودمشق وعمان ودبي. أدرك أنه ليس بحل كامل، لكنه الخيار المتاح لي. وعندما بدأت تأليف هذا الكتاب كنت حريصة على عدم تعريض حياة العراقيين الذين تحدثوا إليّ للخطر فقد غيّرت من أسماء البعض. وهؤلاء عندما تحدثوا إليّ كان جل ما يريدونه هو استجلاء حقيقة معاناة العراقيين ليقرأها القراء الأميركيون والبريطانيون ليعرفوا عن قرب تلك الأمة التي قاموا بغزوها.
هناك كتب قليلة كتبت من داخل (حزب البعث) الحكومي، وتلك التي صدرت بالإنكليزية بدت وكأنها أشبه ما تكون بذكريات كتبتها أشباح ومليئة بالأخطاء والفجوات. أما كتابي فقد ارتكز على ذاكرة الناس، وهي محفورة في أذهانهم وتخدم أغراضاً ذاتية وتشوبها أوهام. لكنني تحريت الحقيقة قدر المستطاع. وعن حياة كامل ساجد فقد روى لي أكثر من شخص قصة حياته التراجيدية وأكدها كثيرون. والقصص العديدة التي رواها لي البعض عن أنفسهم ولم اتحقق منها أهملت ذكرها لعلمي أنها قد تكون أكاذيب ما لم أتحقق من صحتها».
نظام فاسد وسفاح
وتحت عنوان «مثقال حبة خردل... صحافية تتفحص حياة جنرال عراقي في محاولة لفهم الأسباب التي تجعل أناساً طيبين يخدمون أنظمة حاكمة شريرة» يشير مارجوري كيهي في صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» الأميركية إلى «أن كثيرين كانوا يتذكرون ساجد كرجل شجاع وبسيط ومستقيم. كان يؤدي الصلاة لربه وكان يبدي الشفقة والعطف على المحتاجين، كما كان أباً وزوجاً حنوناً. ومع ذلك، فإن كامل ساجد كان أيضاً أحد أعمدة نظام فاسد وسفاح. فبصفته جنرالاً في الجيش العراقي (كما كان بطلاً بارزاً من ابطال الحرب العراقية - الإيرانية)، دأب ساجد على تنفيذ رغبات صدام حسين على مدى 30 عاماً وبولاء كبير إلى درجة أن صدام حسين امتدحه بحماس ذات مرة قائلاً: (ينبغي أن يكون كل جندي عراقي على منوال كامل ساجد... إن كامل ساجد هو قائد عسكري أعتز به). لكن لماذا يضطر رجل ذو شخصية متميزة كهذه أن يخدم طاغية؟ ذلك هو السؤال الذي أقلق الصحافية ويندل ستيفنسون. فالجنرال ساجد لم يكن حالة فريدة من نوعها، بل كان واحداً من شخصيات عراقية عدة التقتها ستيفنسون، وهي شخصيات لرجال بدوا لها أذكياء ومنصفين ورحماء، أولئك الرجال كانوا قريبين من صدام حسين بدرجة كافية لرؤية معالم شخصيته بوضوح، ومع ذلك فإنهم لم يغادروا دائرته».
ويضيف كيهي: «لكن لماذا خدموا مثل ذلك النظام؟ وكيف تكيفوا مع ضمائرهم؟ وكيف تعايشوا مع أنفسهم؟ تلك هي التساؤلات التي تعالجها ستيفنسون في كتابها الذي يحمل عنوان (مثقال حبة خردل)، وهو العنوان المشتق من الآية القرآنية 16 في سورة لقمان والتي تقول: (إنها إن تكُ مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله). ومن خلال سبر أغوار تلك التساؤلات، تسعى ستيفنسون إلى محاولة التوصل إلى إجابة للسؤال التالي: كيف يساهم أشخاص عاديون في تشكيل آلة تعذيب؟ وذلك من خلال البحث والتمحيص في حياة شخص واحد من أولئك الأشخاص.
إن ويندل ستيفنسون هي صحافية ذات طراز شبيه بالمراسل الصحافي البولندي الأسطوري ريزارد كابوتشينسكي، إذ إنها تحب المهام الصحافية التي تكون غير مريحة وفي أماكن بعيدة. فلقد عاشت ستيفنسون في جورجيا خلال فترة ما بعد نهاية الحقبة الشيوعية وكتبت تقارير صحافية من هناك، وقد الّفت عن تلك الفترة كتاباً بعنوان (قصص سرقتها). كما أنها سافرت في مهام صحافية إلى أثيوبيا وايران والعراق ولبنان. وعلاوة على ذلك، فإن ستيفنسون بقيت في العراق لفترات طوال إلى ما بعد ما قد يعتبره كثيرون نقطة الحس الجيد، إذ واصلت تغطية شعرها الأشقر والخروج لتأدية مهام صحافية، حتى بعد اختطاف زميلتها جيل كارول الصحافية السابقة في صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور). وعموماً، فإنه معروف عن ستيفنسون أن كتاباتها تكشف عن اهتمام دائم بالحالة البشرية وبأسرارها الغامضة. ولكنها في حالة الجنرال ساجد تبدو غير قادرة على إعطائنا أكثر من مجرد لمحات خاطفة من حياة ذلك الرجل. ففي سياق الكتاب نقرأ عن الجنرال ساجد من خلال حديث أفراد أسرته وزملائه - ممن أصبح معظمهم الآن مغتربين يعيشون في دمشق أو بيروت - ولكننا لا نعرفه بشكل حقيقي مطلقاً. كما أن الأمر المؤكد هو أن الكتاب لا يحل لغز الشر من خلال سرد قصة كامل ساجد، تماماً مثلما أنه لم يكن من الممكن مطلقاً حل لغز شر هتلر من خلال دراسة حالات الرجال الذين كانوا مقربين إليه».
مذاق الإرهاب
ويتابع كيهي: «في المقابل نجحت ستيفنسون من خلال هذا الكتاب في توضيح أن صدام حسين أوجد نظام حكم يعتمد على الإرهاب، وأنه شوه الضمير العراقي من خلال سيكولوجية فاسدة. ثم تشير ستيفنسون إلى نتائج دراسات تكشف عن أن أناساً طيبين كثيرين يرضخون تحت وطأة سطوة السلطة. ومع ذلك، فإن طموح ستيفنسون وأسلوبها في نقل الأحداث يتميزان بالجرأة ويستحقان الإعجاب، وخلال سفرنا مع ستيفنسون (من خلال الكتاب) عبر العراق وعبر مراكز المغتربين العراقيين في منطقة الشرق الأوسط، فإننا نتمتع معها بمزايا متابعة مشاهد وحوارات غير عادية.
إن كتاب (مثقال حبة خردل) يعطينا لمحات عن العراق وعن الغزو الأميركي للعراق من خلال عيون أفراد أسرة الجنرال ساجد. ففي سياق الكتاب نرى الجنرال ساجد في ساحة المعركة (من خلال وصف للقطات فيديو يعتز بها أفراد أسرته) كما نسمع عن لقاءاته مع صدام حسين. وعلاوة على ذلك، فإن الكتاب يجعلنا نستشعر مذاق الإرهاب الذي فرض التلاحم قسراً على المجتمع العراقي. لكن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام ربما يكمن في حقيقة أننا نلتقي من خلال الكتاب مع رجال آخرين مثل الجنرال ساجد، وهم رجال عراقيون كانوا في وقت من الأوقات يشغلون مناصب رفيعة في نظام صدام حسين، لكنهم باتوا الآن يصارعون مع مستقبلهم ومع ضمائرهم. هؤلاء الرجال تقابلهم ستيفنسون وهم (جالسون في مقهى أو في بهو فندق أو في مركز للاجئين... وهم يحتسون أكواباً من الشاي أو عصير البرتقال أو عبوات مياه غازية). وبمرور الوقت تكون ستيفنسون قد التقت عدداً كبيراً جداً من أولئك الرجال إلى درجة أنها تمازح مترجمها قائلة: (أستطيع الآن أن اتعرف على أي واحد منهم من بين حشد في مقهى). وتتواصل ستيفنسون في سياق كتابها إلى استنتاج مفاده أن زملاء صدام السابقين كانوا عموماً ودودين ودمثين كما أنهم كانوا - عموماً - يتمتعون بدرجات متفاوتة من حس الفكاهة، وتكتب ستيفنسون عن ذلك الأمر ما يلي: (لقد أُعجبت بهم، ومازحتهم، وتعاطفت معهم)، لكنها تنوه إلى أنهم جميعاً (انخرطوا في درجات متفاوتة من النفاق)، وان ايا منهم لم ينظر إلى عينيها مباشرة خلال حديثها معهم».
ويختم كيهي: «صحيح أن الحوارات التي أوردتها المؤلفة في سياق الكتاب لا تحاول تبرئة أولئك الرجال، لكنها تسهم في تعميق فهم القارئ لمدى تعقيد أوضاعهم. فنحن جميعاً نود أن نصدق أننا سننبذ الشر بلا أي تردد لو أننا وجدنا أنفسنا في ظل ظروف مشابهة للظروف التي وجد أولئك الرجال أنفسهم في ظلها. لكن من الممكن لكتاب مثل هذا الكتاب أن يكون تجربة غير مريحة في مجال القراءة. فكما تشير ستيفنسون في مقدمة الكتاب، فإن (هناك مبرراً اصلياً واحداً لسرد القصص في المقام الأول.... وهذا المبرر يتمثل في أن نتعلم كيف نفهم أنفسنا في الآخر). وصحيح أن كتاب (مثقال حبة خردل) يخفق في ان يأخذنا على امتداد الطريق المؤدية كلها إلى ذلك الفهم، لكنه على الأقل يجرؤ على محاولة القيام بذلك. وبالنسبة إلى القراء المتعطشين إلى إجابات عن التساؤلات الأعمق الكامنة وراء العناوين الرئيسية، فإنه يمكن القول إن كتاب ستيفنسون سيروي بعض ذلك التعطش».
أما جوناثان ستيل في عرضه للكتاب في صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية فيوضح أنه «من بين الكتب الكثيرة التي تم ومازال يتم تأليفها عن العراق، يبرز كتاب ويندل ستيفنسون الجديد بفضل نهجه وأسلوبه المختلف على نحو لافت. ففي كتابها (مثقال حبة خردل)، تعود ستيفنسون إلى العقود التي سبقت الغزو الأميركي للعراق لتكشف مخاوف وانفعالات الرجال الذين كانوا يعملون لحساب صدام حسين. وتهدف ستيفنسون من وراء هذا الكتاب إلى استعراض تاريخ فترة نعرف جميعاً أنها كانت مروعة، كما أننا نشعر بالارتياح لأن تلك الفترة قد ولّت. وللوهلة الأولى قد يبدو هذا الهدف غير متماشٍ مع الفترة الراهنة، لا سيما أن الفترة التي تلت ذلك الأمر قد أسفرت عن انعدام الأمن وعمليات سفك دماء مست جميع الأسر العراقية، وليس طبقة النخبة وحدها».
ويرى ستيل أن «الفترة التي تعقب تغيير أي نظام حاكم، وهي الفترة التي تشهد تراجع المخاوف مع بقاء الذكريات واضحة، تعتبر أفضل وقت لإجراء بحث شفهي. وابتداء من صيف العام 2003، قضت ستيفنسون أعواماً أربعة، وهي تتعقب مسؤولين سابقين في (حزب البعث) العراقي إلى أن فازت بثقتهم. وصحيح أن التحدث إلى ضحايا صدام كان أمراً سهلاً، لكن الحوارات الصريحة مع الرجال الذين كانوا مقربين إليه كانت شيئاً آخر. فجميع الشخصيات الرفيعة التي كان من الممكن للمؤلفة أن تجري معها مقابلات كانت ومازالت إما متوارية عن الأنظار وإما قابعة في السجون، وهي الشخصيات المطلوبة من جانب الجيش الأميركي، والتي ظهرت صور أصحابها على حزمة اوراق اللعب الأميركية المشهورة. ولهذا السبب فإن ستيفنسون اضطرت إلى النزول إلى المستوى التالي على سلم تلك الشخصيات، وهكذا فإنها بدأت في بغداد وواصلت رحلة بحثها في عمان ودمشق وبيروت لتسبر أغوار شخصيات سنية عراقية تنتمي إلى الطبقتين العليا والمتوسطة ممن فروا هرباً من عمليات الاختطاف والقتل الطائفي».
هروب إلى الدين
ويقول ستيل: «الشخصية المحورية في الكتاب هي شخصية الجنرال كامل ساجد الذي قاتل على نحو بطولي في الحرب العراقية - الإيرانية، وتولى الإشراف على جهود العراق في سبيل التمسك باحتلال الكويت عندما جاءت القوات الأميركية لتحريرها في العام 1991، ثم شغل في وقت لاحق في زمن صدام حسين منصب محافظ محافظة ميسان ذات الغالبية الشيعية، لكن ستيفنسون تنشر شبكتها أوسع من ذلك بكثير، إذ إن رحلة سعيها وراء رجال كانوا يعرفون الجنرال ساجد شخصياً تضم إلى الدائرة اختصاصياً نفسياً عسكرياً وجنرالاً كان يتولى قيادة الفيلق الثاني في قوات الحرس الجمهوري حتى سقوط بغداد في العام 2003، وضابط في سلاح المظلات كان قد شارك في غزو الكويت، بالإضافة إلى نائب المدير السابق لسجن أبو غريب وغيرهم كثيرون من الشخصيات التي كانت تتولى مناصب قيادية في (حزب البعث) العراقي. ومن خلال القصص التي تسردها تلك الشخصيات، يستطيع القارئ أن يحصل على نظرة متعمقة في داخل أهوال الحرب العراقية - الإيرانية التي استمرت من العام 1980 إلى العام 1988، وهي الحرب التي دأب خلالها قادة عسكريون عراقيون على إصدار أوامر بشن عمليات هجومية محفوفة بالمخاطر على نحو سخيف، كما كانوا ينفذون عمليات إعدام روتينية ضد الجنود الذين كانوا يقررون الفرار من تلك الهجمات. ويأخذنا الكتاب أيضاً في رحلة إلى داخل عملية احتلال الكويت في العام 1990، كما نشهد عمليات قصف قرى كردية ورشها بالغازات (الكيماوية) خلال حملة الأنفال الوحشية في أواخر الثمانينات».
ويضيف ستيل: «ان التساؤل المهيمن في سياق الكتاب هو لماذا لم يحصل أن هرب أو تمرد أي من أولئك الرجال الذين كانوا يعملون لحساب صدام حسين؟ فصحيح أن مكافآت السلطة كانت عظيمة، لكن المخاطر كانت أعظم بكثير. فقرارات الترقية وتخفيض الرتبة كانت تتعاقب من دون أي أسباب واضحة. وكان من الممكن أن يتم إلصاق تهمة عدم الولاء إلى أي مسؤول في أي وقت، ولم يكن لأحد أن يكون على يقين مما إذا كان الديكتاتور الزئبقي سيعاقب الشخص الذي يواجه الاتهام أو الشخص الذي جاء الاتهام من جانبه. وفي حالة الجنرال كامل ساجد، كان الحل عبارة عن نوع من الهروب إلى داخل الدين مع قدر من الانضباط الشخصي والاحتشام في التعامل مع الرجال (الجنود) الذين كانوا يخدمون تحت إمرته، وكذلك مع الناس الذين خدمهم كمحافظ لمحافظة ميسان، وهكذا أصبح الجنرال ساجد متشدداً في إقامة شعائر دينه وعلى عكس معظم السنة العراقيين فإنه أصبح اقرب ما يكون إلى مسلم أصولي، ولكن هل ساعده ذلك أم أنه أعاقه؟
الواقع أننا لا نعرف الإجابة عن هذا السؤال، فعند نقطة قريبة من منتصف الكتاب يتبين أن ساجد قد تم إعدامه من دون محاكمة في سجن أبو غريب في ديسمبر من العام 1998. وهناك نظريات عدة عن سبب إعدامه، لكن ستيفنسون تقول إنها لم تستطع أن تعثر على أي شخص لديه السبب الحقيقي على وجه التأكيد. وتقول إحدى الإشاعات عن ذلك الأمر إن سبب إعدام الجنرال كامل ساجد كان لأنه رفض قبول منصب نائب علي حسن المجيد الشهير بـ (علي الكيماوي) فأصدر قصي صدام حسين قرار إدانته وإعدامه، وهناك إشاعة أخرى مفادها أنه أُعدم لأنه صرخ محتداً في وجه صدام حسين خلال رفضه قبول تولي ذلك المنصب».
ويتابع: «علاوة على كونه تحقيقاً استقصائياً من الطراز الأول فإن كتاب (مثقال حبة خردل) هو كتاب يتعلق باستكشاف أو إعادة استكشاف الذات بالنسبة إلى مؤلفته ستيفنسون التي تقر بأنها أيدت الغزو الأميركي للعراق في البداية، ثم تضيف (كنت ساذجة آنذاك)، موضحة أنها لم تدرك إلا لاحقاً أن الاحتلال الأميركي للعراق كان بمثابة إذلال عام للشعب العراقي، وأن ذلك الاحتلال أدى إلى دفع أبناء الجنرال كامل ساجد إلى الانضمام إلى صفوف المقاومة، رغم أنه لم يكن لديهم اي تعاطف إزاء صدام الذي كان قتل والدهم. كما تكشف ستيفنسون أيضاً عن أنها أدركت مدى تعقيد الخيارات الأخلاقية في إطار المنظومة الشمولية التي يتحتم على المرء فيها أن يخضع ولو لعنصر واحد من عناصر التواطؤ».
ويختم ستيل: «لكن كتاب ستيفنسون له بعض نقاط الضعف. فالمؤلفة اضطرت إلى الاستعانة بمترجمين، كما أنها عملت من خلال تدوين الملاحظات والمعلومات في مذكرات ورقية عوضاً عن استخدام جهاز تسجيل صوتي. ولذلك فإنه كان محتماً على إعادة سرد المؤلفة لأحداث ساحات القتال ولاختلاجات شخصياتها أن تشوبها أصداء التصوير والتزيين الأدبي المفرط.
لكن عموماً يمكن القول إن ستيفنسون تجمع في كتابها هذا أجزاء متناثرة بعد جهود تغطية صحافية شاقة، بالإضافة إلى تكهنات ذكية، كاشفة للقارئ تفاصيل متعلقة بالتوترات التي كانت متعلقة بالحياة على مقربة من دائرة سلطة ديكتاتورية، أكثر من التفاصيل التي كشفتها جهود أي كاتب غربي في السابق».
تسعى الصحافية البريطانية ويندل ستيفنسون من خلال كتابها «مثقال حبة خردل... القصة الحميمة لجنرال عراقي وأفراد أسرته خلال 30 عاماً من الاستبداد» للإضاءة على حياة ضابط عراقي سابق كان مقرباً من صدام.
الكتاب الذي صدر عن دار «هاربر كولينز» البريطانية للنشر يحكي فصولاً من حياة كامل ساجد عزيز الجنابي الذي كان قائداً للقوات الخاصة العراقية، وكان الجنرال المسؤول عن الجيش العراقي في مدينة الكويت بعد احتلالها، كما كان أيضاً حاكماً لمحافظة ميسان العراقية.
ستيفنسون، مراسلة «الأوبزرفر» البريطانية، ألفت كتابها من خلال ما دونته على قصاصات ورقية بعد مقابلاتها مع أفراد من أسرة وبعض أصدقاء الضابط العراقي الذي تم إعدامه أيام صدام رغم خدماته للنظام، في محاولة من المؤلفة تقديم صورة عن الشر الذي كان متأصلاً في حقبة من تاريخ العراق.
«الراي» تعرض فصولاً مما ذكرته ستيفنسون، فضلاً عما نشرته بعض الصحف الأميركية والبريطانية عن الكتاب.
كان الجنرال كامل ساجد أحد الشخصيات العسكرية المفضلة لدى صدام حسين. وحسب دار «هاربر كولينز» فلقد «كان ساجد بطلاً من ابطال الحرب العراقية - الإيرانية وكان قائداً للجيش العراقي في مدينة الكويت خلال عملية عاصفة الصحراء، كما شغل منصب محافظ ميسان، وهو أب لتسعة ابناء، وعندما انجذبت المؤلفة ويندل ستيفنسون إلى قصة الجنرال ساجد، فإنها بدأت باستقصاء بعض الأسئلة عنه وعن بعض زملائه الموالين لـ(حزب البعث)، ومن بين تلك الأسئلة: لماذا خدموا مثل ذلك النظام؟ وكيف تكيّفوا مع ضمائرهم؟ وكيف كانوا يعيشون (آنذاك)؟ وكيف كانوا يتعايشون مع أنفسهم؟».
ويشير الناشر إلى أن «رحلة ستيفنسون في سبيل التوصل إلى إجابات عن هذه الأسئلة استغرقت أعواماً خمسة، واشتملت على جمع تراكمي لحقائق وآراء ومخاوف واعترافات وشكوك من جانب أسرة ساجد وأصدقائه وحتى أعدائه. والواقع ان النتيجة (الكتاب) ليست مجرد سرد آسر لقصة صعود وسقوط رجل واحد، بل تصوير حميمي وحيوي للشعب العراقي ككل. فعلى امتداد رحلة صعوده من شرطي إلى ضابط في القوات الخاصة، ثم إلى جنرال، بذل ساجد مزيداً ومزيداً من التضحيات، كي يبقى في دائرة المقربين إلى صدام حسين. ولأنه كان مخلصاً في ولائه لله ولرئيسه، فإن الجنرال ساجد شهد تنفيذ عمليات إعدام عسكرية، كما أنه تكبد مشقة دخول السجن عندما بدأت سلوكيات صدام في اتخاذ منعطفات ارتيابية على نحو متزايد تحت تأثير جنون السلطة. ولكن عندما آن الأوان لأبناء الجنرال ساجد كي يؤدوا خدمتهم العسكرية فإنه رفض أن يسمح لهم بأن ينضموا إلى تلك المؤسسة (الإجرامية) التي كان قد أعطى حياته لها. فلقد أدرك ساجد بعد فوات الأوان أنه قد أصبح أحد المشاركين في ذلك النظام الإرهابي الذي خنق دولته (العراق) ودمر شعبه».
المبدعة
ويلفت الناشر إلى أنه «من خلال سرد قصة الجنرال ساجد وقصص المحيطين به تكشف المؤلفة ويندل ستيفنسون عن الخيارين اللذين كان على العراقيين أن يختاروا بينهما أولاً، وهما التعاون مع النظام أو العيش في المنفى. وفي هذا الكتاب نرى العراقيين خلف عناوين الأخبار، كما نرى المأساة المتولدة عن العواقب غير المقصودة. كما نرى في الكتاب أيضاً أول سرد روائي مطوّل تسرده صحافية تتمتع بموهبة هائلة، وهي الصحافية التي شبهها نقاد بمبدعين من أمثال بروس تشانوين وريتزارد كابوتشينسكي».
أما ستيفنسون فتقول في مقدمة كتابها: «ذهبت إلى بغداد في صيف 2003 كصحافية مستقلة بتكليف من جريدة (الأوبزرفر) اللندنية وقضيت فترة الحرب في كردستان في الشمال، وأردت رؤية ما خلّفته الحرب ومعرفة المزيد عن أعوام حكم صدام المنغلقة. ومكثت في بغداد طوال شهر أغسطس وعدت في نوفمبر الذي تلاه لمدة 7 أشهر أخرى.
عشت في بادئ الأمر بفندق الحمراء مع زمرة الصحافيين، ثم انتقلت إلى فندق الدليمي الأرخص على الجهة المقابلة للحمراء، ثم إلى مبنى صحيفة (الغارديان) البريطانية مع حارسين مسلحين كانا يتمركزان في الحديقة. كتبت بعض الأخبار والمقالات لموقع على الإنترنت ولمجلة (الفايننشال تايمز) و(غرانيتا) واشتغلت على قصة هذا الكتاب عن طريق مقابلات - بوجود مترجم - مع عائلة ساجد وأصدقاء وزملاء له. كنت مهتمة بقصة جنرال عراقي كمدخل لقراءة قصة ما حدث في العراق، ليس فقط من وجهة نظر ضحايا هذا النظام، ليس من وجهة نظر من شاركوا فيه. ودوّنت مقابلاتي في مذكرات وملاحظات وفقرات على حاسبي المحمول».
وتضيف: «غادرت بغداد في يونيو 2004 منهكة بفعل العنف والتوتر، لكن بنية العودة بعد عطلة جيدة. وخلال صيف ذلك العام اختطف اثنان من أصدقائي وأُطلق سراحهما بعد أيام قليلة، ولكن من أحاديثي مع زملائي في العراق بدا واضحاً أن أسلوب عملي والقيادة في بغداد في سيارة عادية مغطية رأسي بغطاء رأس لإخفاء شعري الأشقر، لكن من دون حراس أو أسلحة أمر فيه خطورة متزايدة. وعدت بالفعل لمدة أسابيع خمسة في يناير وفبراير من العام 2005 لتغطية أول انتخابات وللبحث عن قصص أخرى ولمعرفة ما حدث مع آل ساجد. لكنني وجدت هذه المرة أن حوادث الاختطاف قد زادت وظهر أن الأجانب هم المستهدفون من قبل رجال العصابات والمقاومة على السواء. كان 70 في المئة من بغداد محكومة برجال مسلحين، وهناك الكثير من المفاوضات تدور والاشتباكات المسلحة تدور رحاها بصورة يومية. لهذا تخفيت مرتدية عباءة سوداء كبيرة وأقود سيارة عادية كأحد الأساليب الحذرة لزيارة أناس غير معلومين، ولم أكن أمكث في مكان واحد لأكثر من ساعة أو ساعتين.
مارلا رزيقة التي أسست منظمة غير ربحية تعمل لتعويض العراقيين عن أضرار الحرب الأميركية قتلت مع زميل لها عراقي بواسطة سيارة ملغومة. وفي العام الذي تلاه اختطفت جيل كارول التي كانت تعمل لحساب جريدة (كريستيان ساينس مونيتور)، وطال اختطافها لأشهر مع مترجمها. كما قتل آلان أنويا الذي قابلته عام 2003 - وكان شاباً يافعاً ورائعاً - وكان ذلك في كمين. وقد جمعتني بمارلا وجيل ذكريات جميلة في فندق بابيلون».
الفكرة
وتتابع: «منذ صيف عام 2004، وحتى تاريخ كتابة هذا الكتاب، لا أعتقد بأن أي صحافي غربي دار في شوارع العراق (باستثناء كردستان) ليجلس على قهوة أو ليذهب لمطعم أو ذهب للتبضع مثلي. وعندما كنت أتحدث للزملاء الصحافيين أثناء زياراتي كان من الواضح بأنهم كانوا مقيدين بالمباني التي يمكثون فيها والمحاطة بحرس، أما ما كان ينقل عما يحدث بالأذن والعين فكان العراقيون يقومون بهذه المهمة. وحتى نقل هذه الأحداث بواسطة الزملاء العراقيين فكان أمراً بالغ الخطورة في عام 2006 خصوصاً وهم يحملون الكاميرات أو مذكرات علناً. لهذا فقد تحوّلت بعد عام 2005 لإجراء بحث بين اللاجئين العراقيين التي تزايدت أعدادهم في لندن وبيروت ودمشق وعمان ودبي. أدرك أنه ليس بحل كامل، لكنه الخيار المتاح لي. وعندما بدأت تأليف هذا الكتاب كنت حريصة على عدم تعريض حياة العراقيين الذين تحدثوا إليّ للخطر فقد غيّرت من أسماء البعض. وهؤلاء عندما تحدثوا إليّ كان جل ما يريدونه هو استجلاء حقيقة معاناة العراقيين ليقرأها القراء الأميركيون والبريطانيون ليعرفوا عن قرب تلك الأمة التي قاموا بغزوها.
هناك كتب قليلة كتبت من داخل (حزب البعث) الحكومي، وتلك التي صدرت بالإنكليزية بدت وكأنها أشبه ما تكون بذكريات كتبتها أشباح ومليئة بالأخطاء والفجوات. أما كتابي فقد ارتكز على ذاكرة الناس، وهي محفورة في أذهانهم وتخدم أغراضاً ذاتية وتشوبها أوهام. لكنني تحريت الحقيقة قدر المستطاع. وعن حياة كامل ساجد فقد روى لي أكثر من شخص قصة حياته التراجيدية وأكدها كثيرون. والقصص العديدة التي رواها لي البعض عن أنفسهم ولم اتحقق منها أهملت ذكرها لعلمي أنها قد تكون أكاذيب ما لم أتحقق من صحتها».
نظام فاسد وسفاح
وتحت عنوان «مثقال حبة خردل... صحافية تتفحص حياة جنرال عراقي في محاولة لفهم الأسباب التي تجعل أناساً طيبين يخدمون أنظمة حاكمة شريرة» يشير مارجوري كيهي في صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» الأميركية إلى «أن كثيرين كانوا يتذكرون ساجد كرجل شجاع وبسيط ومستقيم. كان يؤدي الصلاة لربه وكان يبدي الشفقة والعطف على المحتاجين، كما كان أباً وزوجاً حنوناً. ومع ذلك، فإن كامل ساجد كان أيضاً أحد أعمدة نظام فاسد وسفاح. فبصفته جنرالاً في الجيش العراقي (كما كان بطلاً بارزاً من ابطال الحرب العراقية - الإيرانية)، دأب ساجد على تنفيذ رغبات صدام حسين على مدى 30 عاماً وبولاء كبير إلى درجة أن صدام حسين امتدحه بحماس ذات مرة قائلاً: (ينبغي أن يكون كل جندي عراقي على منوال كامل ساجد... إن كامل ساجد هو قائد عسكري أعتز به). لكن لماذا يضطر رجل ذو شخصية متميزة كهذه أن يخدم طاغية؟ ذلك هو السؤال الذي أقلق الصحافية ويندل ستيفنسون. فالجنرال ساجد لم يكن حالة فريدة من نوعها، بل كان واحداً من شخصيات عراقية عدة التقتها ستيفنسون، وهي شخصيات لرجال بدوا لها أذكياء ومنصفين ورحماء، أولئك الرجال كانوا قريبين من صدام حسين بدرجة كافية لرؤية معالم شخصيته بوضوح، ومع ذلك فإنهم لم يغادروا دائرته».
ويضيف كيهي: «لكن لماذا خدموا مثل ذلك النظام؟ وكيف تكيفوا مع ضمائرهم؟ وكيف تعايشوا مع أنفسهم؟ تلك هي التساؤلات التي تعالجها ستيفنسون في كتابها الذي يحمل عنوان (مثقال حبة خردل)، وهو العنوان المشتق من الآية القرآنية 16 في سورة لقمان والتي تقول: (إنها إن تكُ مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله). ومن خلال سبر أغوار تلك التساؤلات، تسعى ستيفنسون إلى محاولة التوصل إلى إجابة للسؤال التالي: كيف يساهم أشخاص عاديون في تشكيل آلة تعذيب؟ وذلك من خلال البحث والتمحيص في حياة شخص واحد من أولئك الأشخاص.
إن ويندل ستيفنسون هي صحافية ذات طراز شبيه بالمراسل الصحافي البولندي الأسطوري ريزارد كابوتشينسكي، إذ إنها تحب المهام الصحافية التي تكون غير مريحة وفي أماكن بعيدة. فلقد عاشت ستيفنسون في جورجيا خلال فترة ما بعد نهاية الحقبة الشيوعية وكتبت تقارير صحافية من هناك، وقد الّفت عن تلك الفترة كتاباً بعنوان (قصص سرقتها). كما أنها سافرت في مهام صحافية إلى أثيوبيا وايران والعراق ولبنان. وعلاوة على ذلك، فإن ستيفنسون بقيت في العراق لفترات طوال إلى ما بعد ما قد يعتبره كثيرون نقطة الحس الجيد، إذ واصلت تغطية شعرها الأشقر والخروج لتأدية مهام صحافية، حتى بعد اختطاف زميلتها جيل كارول الصحافية السابقة في صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور). وعموماً، فإنه معروف عن ستيفنسون أن كتاباتها تكشف عن اهتمام دائم بالحالة البشرية وبأسرارها الغامضة. ولكنها في حالة الجنرال ساجد تبدو غير قادرة على إعطائنا أكثر من مجرد لمحات خاطفة من حياة ذلك الرجل. ففي سياق الكتاب نقرأ عن الجنرال ساجد من خلال حديث أفراد أسرته وزملائه - ممن أصبح معظمهم الآن مغتربين يعيشون في دمشق أو بيروت - ولكننا لا نعرفه بشكل حقيقي مطلقاً. كما أن الأمر المؤكد هو أن الكتاب لا يحل لغز الشر من خلال سرد قصة كامل ساجد، تماماً مثلما أنه لم يكن من الممكن مطلقاً حل لغز شر هتلر من خلال دراسة حالات الرجال الذين كانوا مقربين إليه».
مذاق الإرهاب
ويتابع كيهي: «في المقابل نجحت ستيفنسون من خلال هذا الكتاب في توضيح أن صدام حسين أوجد نظام حكم يعتمد على الإرهاب، وأنه شوه الضمير العراقي من خلال سيكولوجية فاسدة. ثم تشير ستيفنسون إلى نتائج دراسات تكشف عن أن أناساً طيبين كثيرين يرضخون تحت وطأة سطوة السلطة. ومع ذلك، فإن طموح ستيفنسون وأسلوبها في نقل الأحداث يتميزان بالجرأة ويستحقان الإعجاب، وخلال سفرنا مع ستيفنسون (من خلال الكتاب) عبر العراق وعبر مراكز المغتربين العراقيين في منطقة الشرق الأوسط، فإننا نتمتع معها بمزايا متابعة مشاهد وحوارات غير عادية.
إن كتاب (مثقال حبة خردل) يعطينا لمحات عن العراق وعن الغزو الأميركي للعراق من خلال عيون أفراد أسرة الجنرال ساجد. ففي سياق الكتاب نرى الجنرال ساجد في ساحة المعركة (من خلال وصف للقطات فيديو يعتز بها أفراد أسرته) كما نسمع عن لقاءاته مع صدام حسين. وعلاوة على ذلك، فإن الكتاب يجعلنا نستشعر مذاق الإرهاب الذي فرض التلاحم قسراً على المجتمع العراقي. لكن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام ربما يكمن في حقيقة أننا نلتقي من خلال الكتاب مع رجال آخرين مثل الجنرال ساجد، وهم رجال عراقيون كانوا في وقت من الأوقات يشغلون مناصب رفيعة في نظام صدام حسين، لكنهم باتوا الآن يصارعون مع مستقبلهم ومع ضمائرهم. هؤلاء الرجال تقابلهم ستيفنسون وهم (جالسون في مقهى أو في بهو فندق أو في مركز للاجئين... وهم يحتسون أكواباً من الشاي أو عصير البرتقال أو عبوات مياه غازية). وبمرور الوقت تكون ستيفنسون قد التقت عدداً كبيراً جداً من أولئك الرجال إلى درجة أنها تمازح مترجمها قائلة: (أستطيع الآن أن اتعرف على أي واحد منهم من بين حشد في مقهى). وتتواصل ستيفنسون في سياق كتابها إلى استنتاج مفاده أن زملاء صدام السابقين كانوا عموماً ودودين ودمثين كما أنهم كانوا - عموماً - يتمتعون بدرجات متفاوتة من حس الفكاهة، وتكتب ستيفنسون عن ذلك الأمر ما يلي: (لقد أُعجبت بهم، ومازحتهم، وتعاطفت معهم)، لكنها تنوه إلى أنهم جميعاً (انخرطوا في درجات متفاوتة من النفاق)، وان ايا منهم لم ينظر إلى عينيها مباشرة خلال حديثها معهم».
ويختم كيهي: «صحيح أن الحوارات التي أوردتها المؤلفة في سياق الكتاب لا تحاول تبرئة أولئك الرجال، لكنها تسهم في تعميق فهم القارئ لمدى تعقيد أوضاعهم. فنحن جميعاً نود أن نصدق أننا سننبذ الشر بلا أي تردد لو أننا وجدنا أنفسنا في ظل ظروف مشابهة للظروف التي وجد أولئك الرجال أنفسهم في ظلها. لكن من الممكن لكتاب مثل هذا الكتاب أن يكون تجربة غير مريحة في مجال القراءة. فكما تشير ستيفنسون في مقدمة الكتاب، فإن (هناك مبرراً اصلياً واحداً لسرد القصص في المقام الأول.... وهذا المبرر يتمثل في أن نتعلم كيف نفهم أنفسنا في الآخر). وصحيح أن كتاب (مثقال حبة خردل) يخفق في ان يأخذنا على امتداد الطريق المؤدية كلها إلى ذلك الفهم، لكنه على الأقل يجرؤ على محاولة القيام بذلك. وبالنسبة إلى القراء المتعطشين إلى إجابات عن التساؤلات الأعمق الكامنة وراء العناوين الرئيسية، فإنه يمكن القول إن كتاب ستيفنسون سيروي بعض ذلك التعطش».
أما جوناثان ستيل في عرضه للكتاب في صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية فيوضح أنه «من بين الكتب الكثيرة التي تم ومازال يتم تأليفها عن العراق، يبرز كتاب ويندل ستيفنسون الجديد بفضل نهجه وأسلوبه المختلف على نحو لافت. ففي كتابها (مثقال حبة خردل)، تعود ستيفنسون إلى العقود التي سبقت الغزو الأميركي للعراق لتكشف مخاوف وانفعالات الرجال الذين كانوا يعملون لحساب صدام حسين. وتهدف ستيفنسون من وراء هذا الكتاب إلى استعراض تاريخ فترة نعرف جميعاً أنها كانت مروعة، كما أننا نشعر بالارتياح لأن تلك الفترة قد ولّت. وللوهلة الأولى قد يبدو هذا الهدف غير متماشٍ مع الفترة الراهنة، لا سيما أن الفترة التي تلت ذلك الأمر قد أسفرت عن انعدام الأمن وعمليات سفك دماء مست جميع الأسر العراقية، وليس طبقة النخبة وحدها».
ويرى ستيل أن «الفترة التي تعقب تغيير أي نظام حاكم، وهي الفترة التي تشهد تراجع المخاوف مع بقاء الذكريات واضحة، تعتبر أفضل وقت لإجراء بحث شفهي. وابتداء من صيف العام 2003، قضت ستيفنسون أعواماً أربعة، وهي تتعقب مسؤولين سابقين في (حزب البعث) العراقي إلى أن فازت بثقتهم. وصحيح أن التحدث إلى ضحايا صدام كان أمراً سهلاً، لكن الحوارات الصريحة مع الرجال الذين كانوا مقربين إليه كانت شيئاً آخر. فجميع الشخصيات الرفيعة التي كان من الممكن للمؤلفة أن تجري معها مقابلات كانت ومازالت إما متوارية عن الأنظار وإما قابعة في السجون، وهي الشخصيات المطلوبة من جانب الجيش الأميركي، والتي ظهرت صور أصحابها على حزمة اوراق اللعب الأميركية المشهورة. ولهذا السبب فإن ستيفنسون اضطرت إلى النزول إلى المستوى التالي على سلم تلك الشخصيات، وهكذا فإنها بدأت في بغداد وواصلت رحلة بحثها في عمان ودمشق وبيروت لتسبر أغوار شخصيات سنية عراقية تنتمي إلى الطبقتين العليا والمتوسطة ممن فروا هرباً من عمليات الاختطاف والقتل الطائفي».
هروب إلى الدين
ويقول ستيل: «الشخصية المحورية في الكتاب هي شخصية الجنرال كامل ساجد الذي قاتل على نحو بطولي في الحرب العراقية - الإيرانية، وتولى الإشراف على جهود العراق في سبيل التمسك باحتلال الكويت عندما جاءت القوات الأميركية لتحريرها في العام 1991، ثم شغل في وقت لاحق في زمن صدام حسين منصب محافظ محافظة ميسان ذات الغالبية الشيعية، لكن ستيفنسون تنشر شبكتها أوسع من ذلك بكثير، إذ إن رحلة سعيها وراء رجال كانوا يعرفون الجنرال ساجد شخصياً تضم إلى الدائرة اختصاصياً نفسياً عسكرياً وجنرالاً كان يتولى قيادة الفيلق الثاني في قوات الحرس الجمهوري حتى سقوط بغداد في العام 2003، وضابط في سلاح المظلات كان قد شارك في غزو الكويت، بالإضافة إلى نائب المدير السابق لسجن أبو غريب وغيرهم كثيرون من الشخصيات التي كانت تتولى مناصب قيادية في (حزب البعث) العراقي. ومن خلال القصص التي تسردها تلك الشخصيات، يستطيع القارئ أن يحصل على نظرة متعمقة في داخل أهوال الحرب العراقية - الإيرانية التي استمرت من العام 1980 إلى العام 1988، وهي الحرب التي دأب خلالها قادة عسكريون عراقيون على إصدار أوامر بشن عمليات هجومية محفوفة بالمخاطر على نحو سخيف، كما كانوا ينفذون عمليات إعدام روتينية ضد الجنود الذين كانوا يقررون الفرار من تلك الهجمات. ويأخذنا الكتاب أيضاً في رحلة إلى داخل عملية احتلال الكويت في العام 1990، كما نشهد عمليات قصف قرى كردية ورشها بالغازات (الكيماوية) خلال حملة الأنفال الوحشية في أواخر الثمانينات».
ويضيف ستيل: «ان التساؤل المهيمن في سياق الكتاب هو لماذا لم يحصل أن هرب أو تمرد أي من أولئك الرجال الذين كانوا يعملون لحساب صدام حسين؟ فصحيح أن مكافآت السلطة كانت عظيمة، لكن المخاطر كانت أعظم بكثير. فقرارات الترقية وتخفيض الرتبة كانت تتعاقب من دون أي أسباب واضحة. وكان من الممكن أن يتم إلصاق تهمة عدم الولاء إلى أي مسؤول في أي وقت، ولم يكن لأحد أن يكون على يقين مما إذا كان الديكتاتور الزئبقي سيعاقب الشخص الذي يواجه الاتهام أو الشخص الذي جاء الاتهام من جانبه. وفي حالة الجنرال كامل ساجد، كان الحل عبارة عن نوع من الهروب إلى داخل الدين مع قدر من الانضباط الشخصي والاحتشام في التعامل مع الرجال (الجنود) الذين كانوا يخدمون تحت إمرته، وكذلك مع الناس الذين خدمهم كمحافظ لمحافظة ميسان، وهكذا أصبح الجنرال ساجد متشدداً في إقامة شعائر دينه وعلى عكس معظم السنة العراقيين فإنه أصبح اقرب ما يكون إلى مسلم أصولي، ولكن هل ساعده ذلك أم أنه أعاقه؟
الواقع أننا لا نعرف الإجابة عن هذا السؤال، فعند نقطة قريبة من منتصف الكتاب يتبين أن ساجد قد تم إعدامه من دون محاكمة في سجن أبو غريب في ديسمبر من العام 1998. وهناك نظريات عدة عن سبب إعدامه، لكن ستيفنسون تقول إنها لم تستطع أن تعثر على أي شخص لديه السبب الحقيقي على وجه التأكيد. وتقول إحدى الإشاعات عن ذلك الأمر إن سبب إعدام الجنرال كامل ساجد كان لأنه رفض قبول منصب نائب علي حسن المجيد الشهير بـ (علي الكيماوي) فأصدر قصي صدام حسين قرار إدانته وإعدامه، وهناك إشاعة أخرى مفادها أنه أُعدم لأنه صرخ محتداً في وجه صدام حسين خلال رفضه قبول تولي ذلك المنصب».
ويتابع: «علاوة على كونه تحقيقاً استقصائياً من الطراز الأول فإن كتاب (مثقال حبة خردل) هو كتاب يتعلق باستكشاف أو إعادة استكشاف الذات بالنسبة إلى مؤلفته ستيفنسون التي تقر بأنها أيدت الغزو الأميركي للعراق في البداية، ثم تضيف (كنت ساذجة آنذاك)، موضحة أنها لم تدرك إلا لاحقاً أن الاحتلال الأميركي للعراق كان بمثابة إذلال عام للشعب العراقي، وأن ذلك الاحتلال أدى إلى دفع أبناء الجنرال كامل ساجد إلى الانضمام إلى صفوف المقاومة، رغم أنه لم يكن لديهم اي تعاطف إزاء صدام الذي كان قتل والدهم. كما تكشف ستيفنسون أيضاً عن أنها أدركت مدى تعقيد الخيارات الأخلاقية في إطار المنظومة الشمولية التي يتحتم على المرء فيها أن يخضع ولو لعنصر واحد من عناصر التواطؤ».
ويختم ستيل: «لكن كتاب ستيفنسون له بعض نقاط الضعف. فالمؤلفة اضطرت إلى الاستعانة بمترجمين، كما أنها عملت من خلال تدوين الملاحظات والمعلومات في مذكرات ورقية عوضاً عن استخدام جهاز تسجيل صوتي. ولذلك فإنه كان محتماً على إعادة سرد المؤلفة لأحداث ساحات القتال ولاختلاجات شخصياتها أن تشوبها أصداء التصوير والتزيين الأدبي المفرط.
لكن عموماً يمكن القول إن ستيفنسون تجمع في كتابها هذا أجزاء متناثرة بعد جهود تغطية صحافية شاقة، بالإضافة إلى تكهنات ذكية، كاشفة للقارئ تفاصيل متعلقة بالتوترات التي كانت متعلقة بالحياة على مقربة من دائرة سلطة ديكتاتورية، أكثر من التفاصيل التي كشفتها جهود أي كاتب غربي في السابق».