في كل المراحل السياسية التي مرت بها الكويت منذ عقد ونيّف، كانت الانظار تتجه تلقائيا إلى جاسم الخرافي رئيس مجلس الامة لمعرفة اتجاهات الريح كونه الاكثر دراية بالمعطيات والمواقف داخل السلطتين التنفيذية والتشريعية على حد سواء. بل غالبا ما كان الصحافيون في كل أزمة عدم تعاون يرون الوزراء في مكتب أبو عبد المحسن سائلين إياه النصح بعدما ادارت الحكومة ظهرها لهم.
لم يتحمل أحد في الكويت كما تحمل هذا الرجل. كان قدره أن يقود مرحلة ما بعد الغزو السياسية من موقعه البرلماني. خاض غمار العملية الديموقراطية بكل شفافية وارتضى نتائجها، ثم خاضها مجددا ومجددا تحت الشمس وفي دائرة الضوء محرزا تقدما وصل مرحلة التوافق والإجماع، لأن صبره كبير وباله طويل وأخلاقه رفيعة وشخصيته مرآة للقيم التي حصّنت الكويت : أصالة ومحبة ورقي وأدب وحصافة ورصانة وحكمة.
كان يرد على كل الحملات ضده بالابتسام والاعتراف بحق الآخر في التعبير عن رأيه مهما كان قاسيا أو خارجا على المألوف، تاركا الحكم للناس الذين كان يؤمن بأنهم قادة التغيير من خلال العملية الديموقراطية وان من الممكن لأحد أن يضحك عليهم بعض الوقت إنما يستحيل أن يفعل ذلك كل الوقت... ولم يسقط رهانه يوما على الناس لانه قريب جدا من آمالهم وهواجسهم وبعيد جدا عن المزايدات واطلاق الوعود الجوفاء، فمن يزرع الوهم يحصد الخيبة، وهو لم يحصد سوى المحبة والتعاطف والمزيد من التفاف الكويتيين حوله.
قاد جاسم الخرافي إحدى اصعب المراحل البرلمانية في تاريخ البلاد. مرحلة ما بعد التحرير. مرحلة بناء ما تصدع من حجر ونفوس بشر. مرحلة قيامة المؤسسات السياسية بعدما شتتها زلزال الغزو. مرحلة اعادة ترسيخ القيم الديموقراطية في اطار تحصين النظام. مرحلة التحديات الدولية والإقليمية الكبرى عند بدء الحرب على الإرهاب وسقوط انظمة في المنطقة. مرحلة المصالحات العربية... ومرحلة التحولات على مستوى القيادة السياسية بعد مرض سمو الأمير الوالد رحمه الله ورحيل سمو الأمير الشيخ جابر الأحمد رحمه الله وانتقال دفة الحكم الى سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد أطال الله في عمره.
وبين كل تلك التحديات كان على الرجل ان يواجه الطعنات في الظهر ايضا من اعضاء في السلطتين على حد سواء.
بعض من في المجلس طرح نفسه المدافع الأول عن الديموقراطية والحريات لكنه رفض القبول بنتائجها وكرّس جل وقته وحركته لإثبات أن استحقاق رئاسة المجلس كان «مؤامرة سياسية» من النظام وليس خيارا انتخابيا، مسيئا لكل ناخب صوّت لنائب ولكل نائب صوّت للرئاسة.
وبعض من في الحكومة ساءته صلابة أبو عبد المحسن في رفض التدخل في صلاحيات السلطة التشريعية وعدم مسايرته للدعوات المبطنة بإعلاء شأن نائب أو مجموعة أو كتلة على حساب العمل المشترك، أو بتمرير مشاريع غير مكتملة الشروط، أو بالدخول طرفا في صراع اقطاب لا علاقة له بالسلطتين... لهذا وغيره اعطت اطراف حكومية الضوء الاخضر لجوقة معروفة بالتهجم سرا وعلنا على الخرافي الذي رفض أن يمسك مطرقة الرئاسة إلا كما ينبغي أن تمسك، ولم تثنه الاصوات العالية عن متابعة مسيرته بخط مستقيم.
ورغم ذلك كله، كان الخرافي قبلة الباحثين عن حلول من السلطتين على حد سواء خلال الازمات. يتسامى عن أي إساءة ولا يبخل بالنصح والارشاد من أجل الكويت ومصلحتها. يتحول مكتبه خلية نحل بحثا عن اشارة أو مؤشر. يرد بابتسامته المعهودة: «إن شاء الله خير» و«الله يستر». يتكتم على كل ما من شأنه زيادة الازمة ويسهب في الحديث عن كل ما من شأنه تهدئة التصعيد... وإذا قدر الله أمرا يرتضيه من دون أن يتخلى عن تفاؤله وثقته بأيام سياسية أفضل.
اليوم كثر الكلام عن تردد الخرافي في خوض الانتخابات، لكن فارس الحكمة وخط الدفاع الأول عن الاتزان السياسي وميزان الرصانة والهدوء وصفاء الرؤية لن يغادر الميدان استجابة لمحبيه الكثر، ولن ينسل بهدوء من دائرة الصخب بل سيبقى في قلبها تاركا ابتسامته... عنوانا للمرحلة.
يا أبا عبد المحسن، يا أخي وقريبي وصديقي وأقرب الناس إليّ. تعرف مكانتك عندي وعند اهل الكويت واعرف مكانتي عندك، فقد كنت الاكثر تصنيفا بأنني معك في السراء والضراء وهو شرف أدّعيه وتهمة أتشرف بها. تقاسمنا الايام لسنين طويلة فشاركنا الناس بحلوها وأفراحها وأبقينا الهموم والمرارة بيننا. كنت أكثر من ضغط عليك في الفترة السابقة كي ترتاح وتنصرف الى الاهتمام بنفسك وامور عائلتك، وكنت اكثر من دعاك الى الابتعاد عن سهام «ذوي القربى» في المجلس والحكومة كي يدركوا لاحقا أي خطأ يرتكبون... لكن ما يحصل في الكويت اليوم من انفلات لكل الضوابط يجعلني أشفق على البلد من تراجع الاصوات العاقلة، فهذا التراجع استحقاق صعب على الكويت والكويتيين.
أمتشق سيف القرار الحاسم بأن تبقى في قلب المشاركة السياسية. عين على المستقبل وقلب على الكويت... وبين يديك أمانة التمثيل التي لن يسقطها تعب أو ضيق بإذن الواحد الأحد.

جاسم بودي