| نهى غنام |
اللغة جوهر أساسي ومكون ثقافي مهم في حياة الشعوب، وهي ما يدمج بين شعوب الأرض ويشجع على التبادل الحضاري والثقافي بينها.
وعبر تاريخه الطويل مع الاحتلال شهد الوطن العربي بزواياه المختلفة حربا شرسة خاضها المستعمر لطمس الثقافة العربية وإضعافها في نفوس المواطن العربي المعتز بثقافته العريقة التي قدمت للعالم مناهجا في الادب والعلوم وغيره، ولا شك ان هذه الحرب وجدت اصداء لها في المغرب العربي ولبنان بشكل يبدو واضحا جدا في انتشار اللغة الفرنسية بين العرب في هذه البلدان.
ولانفراد الاحتلال الاسرائيلي في تجربته المتمثلة باستمراره جاثما على الأرض الفلسطينية لمدة 60 عاما فإن لوسائله في محاربة العرب تميز على الاصعدة كلها، فليس بعيدا عن التعسف العسكري والظلم والقتل والتعذيب وما تقوم به السلطات الاسرائيلية من مصادرة للهوية الثقافية العربية الفلسطينية، التي بدأت من الأرض المحتلة عام 1948 ولم تنته في الضفة الغربية وغزة.
وعلى الرغم من استفادة اللغة العبرية من العربية على مر العصور وفي الاماكن التي اختلط بها اليهود مع العرب كالاندلس، فإن هؤلاء اليهود ينكرون هذه الاصول ويسعون الى تطبيع العربية تحت لواء لغتهم من باب حقهم التاريخي في الأرض المقدسة وسيطرتهم على المتحدثين بها ليكونوا بذلك أحرزوا نصرا ثقافيا على الشعب المحتل ومثبتين للعالم غزارة حضارتهم وغناها.
تعتبر اللغة العربية في فلسطين جندي مجهول يقاوم ثابتا للحفاظ على الهوية أمام ما تواجهه من محاولات لمسحها من الذهن العربي بدخول مفردات عبرية بدأت تتطور وتتدرج على الألسنة العربية، وبذلك قد يحتاج الفلسطيني الى اسلحة أخرى غير الحجارة للدفاع بها عن نفسه.
التطبيع اللغوي
تعتبر المعاناة التي يواجهها العرب الفلسطينيون في الاراضي المحتلة عام 1948 خاصة، أمر مفروغ منه في ظل الوضع الفريد من نوعه الذي يعيشونه، لهذا يُجمع المحللون أن مقاومة هذه الفئة تكمن في حربها الثقافية واللغوية وصمودها في وجه رياح بل عواصف التطبيع الثقافي، ولا شك أن الكثير من المواقف البطولية تحسب لفلسطيني 48 من هذه الناحية بالذات.
ويقول الدكتور خليل عودة استاذ اللغة العربية في جامعة النجاح الوطنية في بحث له حول الموضوع أن محاولات إضعاف اللغة العربية «تأتي بخطوات بسيطة متأنية تعتمد على إحلال بعض مفردات من لغة المحتل، وجعلها حقيقة على أرض الواقع، وربط الناس في أمور العمل والحياة والمعاش بهذه المفردات، وهذا ما يحدث بشكل واضح في الأراضي الفلسطينية المحتلة».
وهذا ما يمر به سكان الاراضي المحتلة فعلا؛ فحياتهم وبشكل تلقائي باتت مرتبطة بالعبرية أكثر من أي شئ آخر وقد يضطرون الى الحديث بها يوميا وبشكل متواصل نتيجة ارتباطها بحياتهم المهنية والخدماتية ضمن حدود الدولة المزعومة التي يعيشون فيها.
ومما يزيد الطين بلة الفصل الذي يعاني منه من يطلق عليهم ظلما مواطنين في الدولة العبرية وعدم تواصلهم مع أخوانهم العرب في حدود 67 وانحصار حياتهم الاجتماعية في التعامل مع اليهود في «اسرائيل»، بحيث تصبح العربية لغة الاقلية فيجبروا بذلك على التطبع مع الاغلبية، حتى في المجالات العلمية والاكاديمية يحرص الصهاينة على تكوين المفردات العلمية باللغة العبرية والتي قد لا يجد العرب مرادفا لها في لغتهم فتدرج على ألسنتهم.
هناك من الالفاظ ما يتسلل الى اللسان العربي بفعل الحاجة له ومثال ذلك: المونيت (سيارة الاجرة) والتحناة (محطة الانتظار) وكوبات حوليم (المستشفى) والبجروت (شهادة لثانوية العامة) وغيرها من الالفاظ المرتبطة بعمق بحياة الفرد أو المواطن.
ولا شك أن فلسطينيي48 يبذلون من الجهد ما يضمن لهم العيش بكرامة على أرضهم التاريخية وهم مطالبون أيضا بالصمود أكثر وأكثر لتفعيل التصاقهم بلغتهم الام وتفاعلهم معها.
لغة الدبابات... ولقمة العيش
وتجد الحالة في الضفة الغربية مختلفة بعض الشيء رغم توحد الهدف الاسرائيلي المتمثل في طمس لغة الفلسطينيين، ووجه الاختلاف يكمن في الاحتلال العسكري وقوة الدبابات التي تفرض التعامل مع جنود الاحتلال على الحواجز وفي النقاط العسكرية وعند المداهمات والمواجهات؛ فتجد المفردات الاجتماعية والمدنية قد تنحت لصالح الفاظ لها علاقة بالاحتلال المباشر فالفلسطيني أصبح متمرسا في مواجهة المركابا (الدبابة، وأصبح قادر على التمييز بين الخيال (الجندي) ومشمار جفول (قوات حرس الحدود) وشومير(الحارس) بحكم تعامله مع هذه الفئات المختلفة من قوات الاحتلال،ومطالب بمعرفة موعد السيجر (الاغلاق العسكري).
وإذا ارجعنا سبب هذا التأثر بهذه المفردات الى الاحتكاك اليومي مع الاحتلال فإن عامل نفسي مهم يمكن أن نعزو اليه هذا التأثر، وهو اختلاف مفهوم الكلمة ذاتها لدى الفلسطيني؛ فالدبابة في اللغة العربية من المفروض أن تكون ملك لجيش عربي يقوم بدور المدافع والحامي وهي بذلك تختلف عن (الميركافا) أداة الاحتلال الاوسع انتشارا في الاعتداء على المواطن الفلسطيني، وكأن علاقة المرادفة بين الكلمات انقطعت فأوجد العرب من الكلمات العبرية ما لا يوجد له مرادف في لغتهم.
ومن الناحية الاقتصادية أيضا لا يبدو الوضع مختلفا؛ فوسط الدعوات المتكررة الى مقاطعة البضائع الاسرائيلية ما زالت المتاجر الفلسطينية وللأسف تتعامل مع هذا النوع من البضائع ربما لعدم وجود البديل لها في الاسواق العربية أو الفلسطينية، ويضطر المواطن الفلسطيني للتعامل مع هذه الالفاظ لـ «محليتها اسرائيليا» فهناك تطور واضح في الانتاج المحلي الاسرائيلي واسماء هذه المنتجات ليس لها مرادف في اللغة العربية تظهره شركات بعينها كـ (عليت) و(تبوزينا) و(تنوفا) وغيرها.
ولا ننسى فئة ثالثة من الشعب الفلسطيني من حيث التعامل مع الإسرائيليين، وهي فئة العمال داخل الخط الأخضر، الذين لهم تجربتهم الخاصة أيضا مع الدخيل العبري على اللغة العربية فهم من جهة فلسطينيون وينتمون الى شعبهم في أراضي 67، ولكنهم يعملون داخل اسرائيل وهذا يفرض عليهم التحدث بالعبرية يوميا خاصة في مجال الزراعة والبناء ليعودوا بعد ذلك الى مدنهم وقراهم حاملين جزءا من هذه المفردات فتغدو مكونا مهما في لغتهم، مثل: عوزير (مساعد) كيسف (مال) حمموت (بيت بلاستيكي) وغيرها.
الإعلام بوق للدخيل العبري
عند الحديث عن موضوع الغزو الثقافي نجد الاعلام الاسرائيلي هو البطل الاول في هذه العملية؛ كونه يسير على خطة ممنهجة تهدف الى زرع الاحتلال في نفوس الفلسطينيين عسكريا وثقافيا، خاصة أن هناك فئة لا بأس بها من الشعب الفلسطيني تعتمد على الاعلام الاسرائيلي كمصدر رئيسي للأخبار.
ويعتبر الاعلام المنبر الاول للسياسيين الاسرائيليين ليجسدوا من خلاله قدرتهم على ادخال الكلمة العبرية بلفظها ومعناها الى ذهن الفلسطينيين، ولهذا بُعد آخر غير الغزو اللغوي يتمثل في ترسيخ وجهة النظر الاسرائيلية في قضايا معينة كالمفاوضات والحلول العسكرية.
وتجتهد وسائل الاعلام طبعا في تكرار وتركيز هذه الالفاظ لتطبع في عقل الفلسطيني في الوقت الذي لا تقوم به وسائل الاعلام الفلسطينية بمحاربة هذه الهجمات أو حتى مجرد التطرق اليها في برامجها.
ويمكن القول أن البرامج التي يقدمها الاعلام الاسرائيلي باللغة العربية مع ادخال مفردات عبرية معينة تكون أخطر من العبرية الصرف كونها مقنعة أكثر.
والجدير ذكره ان اللغتين العبرية والعربية متقاربتان جدا نظرا لأن أصول العبرية في الاساس عربية وهذا ما يسهل النطق بهما معا.
ويقول د. عبد الرحمن مرعي في دراسة له حول غزو العبرية للعربية أن هناك لغة ثالثة وسطى أخذت تتكون لدى العرب وأطلق عليها اسم (عربريت) وهي مزيج بين العربية الفصحى والعامية والعبرية، وسيكون لهذه اللغة مقاييس صرفية معينة تتماشى مع اللغات الثلاث، مثال ذلك كلمة (محسوم) العبرية والتي يجمعها العرب بكلمة (محسومات) في الوقت الذي تجمع فيه عبريا بكلمة (محسوميم). والاعلام يكرس لهذه اللغة وينشرها بحكم وجود جمهور متابع ومتلقي له يتأثر فيه ويصدقه ايضا.
ولعل الاعلام الفلسطيني مطالب بأن يقوم بدوره في الدفاع عن الهوية الثقافية كونه منبرا مهما في الحفاظ على الثقافة الفلسطينية ونشرها للآخرين وفي الحقيقة لا تقع المسؤولية على عاتق الاعلام وحده وانما تمتد الى مختلف المؤسسات الرسمية والشعبية المعنية بالموضوع.
* كاتبة فلسطينية
Nuha141@hotmail.com