| حاوره المحرر الثقافي |
منذ صدور ديوانه الأول في العام 1989؛ (وشوشة البحر)، وحتى نشر كتابه الأحدث للأطفال (رحالة العرب) هذا العام، توزعت أعمال الكاتب أشرف أبو اليزيد بين الشعر والرواية والترجمة وأدب الرحلة والنقد التشكيلي والكتابة للطفل. إنتاج غزيرٌ يعكس تعدد المنابع، والإسهامات على مدى عشرين عاما.
* يحتارُ المترجمُ لسيرة أشرف أبواليزيد حين يختار الوصف الأنسب، فهل نقول الشاعر، أم الروائي، أم الناقد، أم المترجم، ولك في ذلك كله إسهام ملموس طيلة عقدين من الزمان؟
- أعتز بصفة القارئ لأنها بوابة الآداب والفنون جميعها. وهي أسبق على جرأة الكتابة، ولولاها ما كان شيءٌ بعدها!
* عشرون عاما على صدور (وشوشة البحر) في 1989، صدر لك بعدها في الشعر (الأصداف) سنة 1996، و(ذاكرة الصمت) سنة 2000، و(فوق صراط الموت) سنة 2001، و(ذاكرة الفراشات) سنة 2005. لماذا هذه الندرة؟ هل الشعر عصي إلى هذا الحد؟
- أوافقك على عصيان الشعر، بل وتمرده، وأسباب ذلك جلية. فالشعر الباحث عن الأسطورة مات، لأننا نعيش عصرا بلا أساطير، الجنون وحده هو الأسطورة الأبدية، والمسيطرة؛ سواء كان جنون السلطة، أو المال، أو الدمار. واختفى بالمثل شعرٌ يتأمل الطبيعة، بعد غياب الأشجار تحت وطأة الأسمنت، واختباء الشمس وراء رماد الحرائق الإنسانية، وجفاف الأنهار بسبب نيران الحقد. كلما بحثت عن غاية للشعر وجدتها تحتضر لسبب أو آخر. انظر للأشعار المنشورة اليوم في كبريات الدوريات العربية، المتخصصة والعامة، إنه شعر الرثاء، نحن نخلد حضورنا بالبكاء على الأموات، وكأن القصائد تمائم وتعاويذ نجاة. لم يعد الشعر يُكتب للتغيير والتثوير، وإنما أصبح يُنظم ليوضع تحته اسم الشاعر، حتى أصبح لدينا شعراء أكثر من قراء الشعر!
* هل يعني ذلك أنك توقفت عن الشعر...؟
- ... إلى اشعار آخر، فالقصيدة التي تلح عليَّ أكتبها، وأنا أدوِّن قصائدي بعد أن تكتب نفسها في مخيلتي، أضم البحر بين غلافين من ماء وصخر، وأسميه الشعر. أحفر للبذرة في جوف الأرض لتنمو شجرًا، وأسميها الثورة. وأحرر قلبا من أسر الصدر لأمنحه جناحين، وأسميه الحب. قصائدي تجد صداها لدى القراء، حتى بلغاتٍ أخرى، فقد ترجمت أشعاري ونشرت بالإيطالية والإنكليزية والفارسية والإسبانية.
* دائمًا ما يرافق الشعر الفن... ما هذا الجوار بين الشعر والفن، الذي نالك منه نصيبٌ؟
- هو جوارٌ وحوارٌ. فالفنون أصداء الآداب، وحين تنهض الآداب، والشعر بخاصة، تزدهر الفنون. لذلك تترافق التجارب التشكيلية والشعرية في العالم كله على نحو كبير. أذكرُ لك مثالا من أسبانيا، سنجد أن عصر جارسيا لوركا، هو نفسه زمان سلفادور دالي. والمحنة التي تعصف بالفنون، من تشكيل وتصوير وعمارة، هي وليدة أزمة الآداب وانعكاسٌ حي لها. فالعمارة الزجاجية والخرسانية المزيفة، الآتية من بلاد الصقيع الباردة إلى أرض الشمس اللاهبة، هي استعارة جانية، لا تستلهم عمارتنا. وحين نبحث عن الأسباب نجد أن هناك شعرًا مزيفا يحوِّم في سماء تلك المردة الخرسانية، أساسها، مثلا، البرامج التلفزيونية التي تروِّج للشعر ولا تبحث عن شعر جيدٍ، وإنما تفتش عن شعر استعراضي، مثله مثل الأبراج العملاقة! السباق المحموم يدفع إلى تزييف علني فتفتح شبكات الاتصال مجانا ليختار المشاهدون فائزا، ويتحول الجمهور إلى محكِّمين متعصبين، فلا الشعر أصبح محكَّا، ولا القصيدة هي المختارة، بل تتسيد القبلية والعصبية. كما لا أستثني كذلك الرواية، التي أصبحت تُكتب فضائحية لتترجم، أو لتلبية شروط مسابقة.
وأعودُ إلى الفن التشكيلي فأقول لك إنني كتبتُ النقد محاولا أن أسلك درب حسين بيكار، وسكة جبرا إبراهيم جبرا، وطريق بلند الحيدري، ونهج محيي الدين اللباد، وكلهم جمعوا بين الأدب والريشة، لصالح تثقيف جمهور عريض، ونقل عالم الفنون من نخبويته إلى فضاء أرحب. وفي الفن لم أنس الطفل، الذي كتبت له الشعر، وقدمت له الحكايات الشعبية العالمية، فلخصت تاريخ الفنون المصرية للأطفال، في كتاب (حكاية فنان عمره 5000 عام). وأملي أن تتحول حصص الرسم في مدارسنا، إلى مزج الفن بالتاريخ، وأن يقوم الأطفال بزيارة الآثار ورسمها على الطبيعة.
نالت روايتك الأولى (شماوس) أصداء كبيرة، ونشر المركز الكوري للثقافة العربية والإسلامية ترجمتها إلى الكورية، وبدأ العمل على ترجمتها إلى اللغتين الإنكليزية والسويدية. غرابة الاسم دفعتنا للقراءة، لنعرف أن (شماوس) قرية خيالية قرب نهر النيل في القاهرة..
بقدر ما كانت الجغرافيا هي التي صنعت التاريخ في (شماوس)، إلا انني أثق أنها حين تُقرأ تطبيقا على جغرافيات متعددة ستجد صدى لها. لا أحب الحديث عن العمل الأدبي شارحًا أو مفسِّرًا، لكنني أختزلها بجملة واحدة: صراع البشر هو مرآة لصراع الأفكار. «قد لا تجدُها (شماوس) على خريطة ما، وربما ستصادفك في كل الخرائط». تعبيرٌ من جملتين، اعتدت أن أسمعَه عن (شماوس)، مثلما قد نسمعُه عن كل الأماكن الروائية التي نخوضُ في صفحاتها، فتأخذنا سطورها إلى عوالم أخر، تحت أكثر من سماء.
* ما أخبار مشروعك الروائي المقبل؟
- روايتي المقبلة تدخل- أكثر- إلى عالم الريف المصري، وعلاقته بمنظومة السفر خارج الحدود. ففي منتصف القرن الماضي، عرف المصريون السفر إلى بلدان الخليج العربية، بحثا عن بناء هذه المناطق التي لم تكن سوى لونين: ذهب الصحراء الأصفر، وذهب النفط الأسود. لوَّن هؤلاء المصريون ذلك الفضاء المزدوج، مع سواهم من فلسطين وسورية وغيرهما من البلدان العربية. وكلما اختنق عنق الزجاجة في الأوطان الأم، زادت طفرات الهجرات، حتى أصبحت شبه الجزيرة العربية ملاذا لهؤلاء القادمين من أحواض الحضارات العتيقة. كانت هناك صدمة ما، صادفها الذين زرعوا وادي النيل خمسة آلاف سنة، وبنوا الأهرامات العظيمة، وشقوا القنوات الجبارة، وأسسوا تراثا ماديا آسرًا ومارسوا تراثا شفاهيا باهرًا، فقد كان عليهم حين سافروا أن يختاروا بين أمرين، إما أن ينقلوا ما ورثوه إلى الأرض الجديدة، أو يكونوا مجرد عابري سبيل، يعودون لأوطانهم بعادات جديدة، وكان النتيجة هي ذلك الصراع الذي عاناه الفريقان معًا؛ هذه هي روايتي الثانية التي تصدر هذا العام.
* قبل أن نبدأ هذا الحوار، حدثتني عن كونك بطلا لرواية اسبانية، وبقدر طرافة الأمر، إلا أنني أحب أن أسألك: كيف حدث ذلك؟
- أعادتني رواية عن (عرب البحر) للكاتب والمصور والرحالة الإسباني خورخي استيفا، إلى ذكرى ست سنوات بعد أن كتب في الصفحة الأولى من الكتاب الذي صدر في 478 صفحة إهداء لي ولبعض الأصدقاء، ممن صاحبوه في رحلته إلى سلطنة عُمان، وقد احتفظت بالكتاب المنشور بالإسبانية، حتى قرأت نسخته الإنكليزية لأدرك أنه جعلني ضمن أبطال الرواية، وجعل اسمي (عاصم)، وكتب صفحات مطولة عن حياتي، ماذا أحب، وماذا أسمع، وأمنياتي، واشعاري، وسرد رحلاتنا معًا!
ربما يكون رحالة مثل خورخي استيفا ملهمًا لك في رحلاتك إلى قارات العالم، مستكشفا لجغرافيتها، وكاتبا عن تاريخها، ومصوِّرًا لمجتمعاتها.
عملي كمحرر ومستطلع في مجلة (العربي) هو الملهمُ الأول. وأنت تعرف أن فنَّ الرحلة بدأ عَربيَّا، على صَهواتِ الخَيْل، وفوق ظهور الإبل، حين بحثَ ابنُ الجزيرةِ العربيةِ عن مصادر الرزق، وأسباب الحياة. وفي سَعْيهِ لاكتشَافِ مواردِ العيش، كانت متعتُه لا توصَف حين عَبَرَ الحدود، التاريخية والجغرافية، ليكتشف الإنسان في بقاع أخرى من العالم، من قاعه إلى سقفه! في القرن العشرين، جاءت (العربي)، لتحمل، من جديد، لواء الرحلة العربية، ولتقدم للقارئ العربي ألف رحلة ورحلة. ويجد القراء في (العربي) مسردًا لحياتي كرحالة، حتى أن السفرات التي أقوم بها خارج المهمات الرسمية يطيب لي أن أنشر مدوناتها وصورها التي التقطتها بعدستي على صفحات (العربي)، عشقا في ديوان الرحلة العربية المعاصرة.
بعد الشعر والتشكيل والرواية، عنيت بالبحث في سير وكتابات مجهولة، فأخرجت للقراء ثلاثة كتب، عن شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق، وشاعر العامية محمود بيرم التونسي، لتعيد اكتشاف نصوص لهما، لا تزال حية إلى اليوم رغم مضي عقود عليها.
نحن لم نقرأ كتابات تاريخ نهضتنا قبل مئة عام بشكل كافٍ. أعني بالقراءة هنا الاستبصار، لأننا لا نزال نزاول الأخطاء نفسها التي ارتكبت قبل عقود. التطرف الذي نبذه الشيخ مصطفى عبد الرازق هو المسيطر اليوم. الفساد الذي هاجمه بيرم التونسي هو السائد حاليا، ونحن نتحدث عن كتابات عمرها تسعون عامًا، أو سبعون سنة. التاريخ لا يعيد نفسه، بل نحن الذين لا نتعلم منه، ولا نتدارك أخطاءنا به، ولا نعمل على إضاءته.
* أنت تحتفل بمرور عشرين سنة على صدور أول كتاب لك، فماذا أعددت لهذه المناسبة؟
- أدشن موقعي الإلكتروني comwww.ashrafdali بشكله الجديد على شبكة الإنترنت، وهو سيضم على مراحل مختارات لكتاباتي باللغات العربية، والإنكليزية، والفارسية، والكورية، والإسبانية، والروسية، والسويدية، وأزوده من حين لآخر ببعض الحوارات المسجلة تلفزيونيا. فالإنترنت هو سوق عكاظ جديدة للآداب والفنون، وبها معلقاتنا، وسردياتنا، ومساهماتنا، التي لا أزال أعتبرها مجرد كلمات على أول الطريق، ونسعى جادين جاهدين إلى أوسطه بشغف، قبل أن تدركنا نهايته.
منذ صدور ديوانه الأول في العام 1989؛ (وشوشة البحر)، وحتى نشر كتابه الأحدث للأطفال (رحالة العرب) هذا العام، توزعت أعمال الكاتب أشرف أبو اليزيد بين الشعر والرواية والترجمة وأدب الرحلة والنقد التشكيلي والكتابة للطفل. إنتاج غزيرٌ يعكس تعدد المنابع، والإسهامات على مدى عشرين عاما.
* يحتارُ المترجمُ لسيرة أشرف أبواليزيد حين يختار الوصف الأنسب، فهل نقول الشاعر، أم الروائي، أم الناقد، أم المترجم، ولك في ذلك كله إسهام ملموس طيلة عقدين من الزمان؟
- أعتز بصفة القارئ لأنها بوابة الآداب والفنون جميعها. وهي أسبق على جرأة الكتابة، ولولاها ما كان شيءٌ بعدها!
* عشرون عاما على صدور (وشوشة البحر) في 1989، صدر لك بعدها في الشعر (الأصداف) سنة 1996، و(ذاكرة الصمت) سنة 2000، و(فوق صراط الموت) سنة 2001، و(ذاكرة الفراشات) سنة 2005. لماذا هذه الندرة؟ هل الشعر عصي إلى هذا الحد؟
- أوافقك على عصيان الشعر، بل وتمرده، وأسباب ذلك جلية. فالشعر الباحث عن الأسطورة مات، لأننا نعيش عصرا بلا أساطير، الجنون وحده هو الأسطورة الأبدية، والمسيطرة؛ سواء كان جنون السلطة، أو المال، أو الدمار. واختفى بالمثل شعرٌ يتأمل الطبيعة، بعد غياب الأشجار تحت وطأة الأسمنت، واختباء الشمس وراء رماد الحرائق الإنسانية، وجفاف الأنهار بسبب نيران الحقد. كلما بحثت عن غاية للشعر وجدتها تحتضر لسبب أو آخر. انظر للأشعار المنشورة اليوم في كبريات الدوريات العربية، المتخصصة والعامة، إنه شعر الرثاء، نحن نخلد حضورنا بالبكاء على الأموات، وكأن القصائد تمائم وتعاويذ نجاة. لم يعد الشعر يُكتب للتغيير والتثوير، وإنما أصبح يُنظم ليوضع تحته اسم الشاعر، حتى أصبح لدينا شعراء أكثر من قراء الشعر!
* هل يعني ذلك أنك توقفت عن الشعر...؟
- ... إلى اشعار آخر، فالقصيدة التي تلح عليَّ أكتبها، وأنا أدوِّن قصائدي بعد أن تكتب نفسها في مخيلتي، أضم البحر بين غلافين من ماء وصخر، وأسميه الشعر. أحفر للبذرة في جوف الأرض لتنمو شجرًا، وأسميها الثورة. وأحرر قلبا من أسر الصدر لأمنحه جناحين، وأسميه الحب. قصائدي تجد صداها لدى القراء، حتى بلغاتٍ أخرى، فقد ترجمت أشعاري ونشرت بالإيطالية والإنكليزية والفارسية والإسبانية.
* دائمًا ما يرافق الشعر الفن... ما هذا الجوار بين الشعر والفن، الذي نالك منه نصيبٌ؟
- هو جوارٌ وحوارٌ. فالفنون أصداء الآداب، وحين تنهض الآداب، والشعر بخاصة، تزدهر الفنون. لذلك تترافق التجارب التشكيلية والشعرية في العالم كله على نحو كبير. أذكرُ لك مثالا من أسبانيا، سنجد أن عصر جارسيا لوركا، هو نفسه زمان سلفادور دالي. والمحنة التي تعصف بالفنون، من تشكيل وتصوير وعمارة، هي وليدة أزمة الآداب وانعكاسٌ حي لها. فالعمارة الزجاجية والخرسانية المزيفة، الآتية من بلاد الصقيع الباردة إلى أرض الشمس اللاهبة، هي استعارة جانية، لا تستلهم عمارتنا. وحين نبحث عن الأسباب نجد أن هناك شعرًا مزيفا يحوِّم في سماء تلك المردة الخرسانية، أساسها، مثلا، البرامج التلفزيونية التي تروِّج للشعر ولا تبحث عن شعر جيدٍ، وإنما تفتش عن شعر استعراضي، مثله مثل الأبراج العملاقة! السباق المحموم يدفع إلى تزييف علني فتفتح شبكات الاتصال مجانا ليختار المشاهدون فائزا، ويتحول الجمهور إلى محكِّمين متعصبين، فلا الشعر أصبح محكَّا، ولا القصيدة هي المختارة، بل تتسيد القبلية والعصبية. كما لا أستثني كذلك الرواية، التي أصبحت تُكتب فضائحية لتترجم، أو لتلبية شروط مسابقة.
وأعودُ إلى الفن التشكيلي فأقول لك إنني كتبتُ النقد محاولا أن أسلك درب حسين بيكار، وسكة جبرا إبراهيم جبرا، وطريق بلند الحيدري، ونهج محيي الدين اللباد، وكلهم جمعوا بين الأدب والريشة، لصالح تثقيف جمهور عريض، ونقل عالم الفنون من نخبويته إلى فضاء أرحب. وفي الفن لم أنس الطفل، الذي كتبت له الشعر، وقدمت له الحكايات الشعبية العالمية، فلخصت تاريخ الفنون المصرية للأطفال، في كتاب (حكاية فنان عمره 5000 عام). وأملي أن تتحول حصص الرسم في مدارسنا، إلى مزج الفن بالتاريخ، وأن يقوم الأطفال بزيارة الآثار ورسمها على الطبيعة.
نالت روايتك الأولى (شماوس) أصداء كبيرة، ونشر المركز الكوري للثقافة العربية والإسلامية ترجمتها إلى الكورية، وبدأ العمل على ترجمتها إلى اللغتين الإنكليزية والسويدية. غرابة الاسم دفعتنا للقراءة، لنعرف أن (شماوس) قرية خيالية قرب نهر النيل في القاهرة..
بقدر ما كانت الجغرافيا هي التي صنعت التاريخ في (شماوس)، إلا انني أثق أنها حين تُقرأ تطبيقا على جغرافيات متعددة ستجد صدى لها. لا أحب الحديث عن العمل الأدبي شارحًا أو مفسِّرًا، لكنني أختزلها بجملة واحدة: صراع البشر هو مرآة لصراع الأفكار. «قد لا تجدُها (شماوس) على خريطة ما، وربما ستصادفك في كل الخرائط». تعبيرٌ من جملتين، اعتدت أن أسمعَه عن (شماوس)، مثلما قد نسمعُه عن كل الأماكن الروائية التي نخوضُ في صفحاتها، فتأخذنا سطورها إلى عوالم أخر، تحت أكثر من سماء.
* ما أخبار مشروعك الروائي المقبل؟
- روايتي المقبلة تدخل- أكثر- إلى عالم الريف المصري، وعلاقته بمنظومة السفر خارج الحدود. ففي منتصف القرن الماضي، عرف المصريون السفر إلى بلدان الخليج العربية، بحثا عن بناء هذه المناطق التي لم تكن سوى لونين: ذهب الصحراء الأصفر، وذهب النفط الأسود. لوَّن هؤلاء المصريون ذلك الفضاء المزدوج، مع سواهم من فلسطين وسورية وغيرهما من البلدان العربية. وكلما اختنق عنق الزجاجة في الأوطان الأم، زادت طفرات الهجرات، حتى أصبحت شبه الجزيرة العربية ملاذا لهؤلاء القادمين من أحواض الحضارات العتيقة. كانت هناك صدمة ما، صادفها الذين زرعوا وادي النيل خمسة آلاف سنة، وبنوا الأهرامات العظيمة، وشقوا القنوات الجبارة، وأسسوا تراثا ماديا آسرًا ومارسوا تراثا شفاهيا باهرًا، فقد كان عليهم حين سافروا أن يختاروا بين أمرين، إما أن ينقلوا ما ورثوه إلى الأرض الجديدة، أو يكونوا مجرد عابري سبيل، يعودون لأوطانهم بعادات جديدة، وكان النتيجة هي ذلك الصراع الذي عاناه الفريقان معًا؛ هذه هي روايتي الثانية التي تصدر هذا العام.
* قبل أن نبدأ هذا الحوار، حدثتني عن كونك بطلا لرواية اسبانية، وبقدر طرافة الأمر، إلا أنني أحب أن أسألك: كيف حدث ذلك؟
- أعادتني رواية عن (عرب البحر) للكاتب والمصور والرحالة الإسباني خورخي استيفا، إلى ذكرى ست سنوات بعد أن كتب في الصفحة الأولى من الكتاب الذي صدر في 478 صفحة إهداء لي ولبعض الأصدقاء، ممن صاحبوه في رحلته إلى سلطنة عُمان، وقد احتفظت بالكتاب المنشور بالإسبانية، حتى قرأت نسخته الإنكليزية لأدرك أنه جعلني ضمن أبطال الرواية، وجعل اسمي (عاصم)، وكتب صفحات مطولة عن حياتي، ماذا أحب، وماذا أسمع، وأمنياتي، واشعاري، وسرد رحلاتنا معًا!
ربما يكون رحالة مثل خورخي استيفا ملهمًا لك في رحلاتك إلى قارات العالم، مستكشفا لجغرافيتها، وكاتبا عن تاريخها، ومصوِّرًا لمجتمعاتها.
عملي كمحرر ومستطلع في مجلة (العربي) هو الملهمُ الأول. وأنت تعرف أن فنَّ الرحلة بدأ عَربيَّا، على صَهواتِ الخَيْل، وفوق ظهور الإبل، حين بحثَ ابنُ الجزيرةِ العربيةِ عن مصادر الرزق، وأسباب الحياة. وفي سَعْيهِ لاكتشَافِ مواردِ العيش، كانت متعتُه لا توصَف حين عَبَرَ الحدود، التاريخية والجغرافية، ليكتشف الإنسان في بقاع أخرى من العالم، من قاعه إلى سقفه! في القرن العشرين، جاءت (العربي)، لتحمل، من جديد، لواء الرحلة العربية، ولتقدم للقارئ العربي ألف رحلة ورحلة. ويجد القراء في (العربي) مسردًا لحياتي كرحالة، حتى أن السفرات التي أقوم بها خارج المهمات الرسمية يطيب لي أن أنشر مدوناتها وصورها التي التقطتها بعدستي على صفحات (العربي)، عشقا في ديوان الرحلة العربية المعاصرة.
بعد الشعر والتشكيل والرواية، عنيت بالبحث في سير وكتابات مجهولة، فأخرجت للقراء ثلاثة كتب، عن شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق، وشاعر العامية محمود بيرم التونسي، لتعيد اكتشاف نصوص لهما، لا تزال حية إلى اليوم رغم مضي عقود عليها.
نحن لم نقرأ كتابات تاريخ نهضتنا قبل مئة عام بشكل كافٍ. أعني بالقراءة هنا الاستبصار، لأننا لا نزال نزاول الأخطاء نفسها التي ارتكبت قبل عقود. التطرف الذي نبذه الشيخ مصطفى عبد الرازق هو المسيطر اليوم. الفساد الذي هاجمه بيرم التونسي هو السائد حاليا، ونحن نتحدث عن كتابات عمرها تسعون عامًا، أو سبعون سنة. التاريخ لا يعيد نفسه، بل نحن الذين لا نتعلم منه، ولا نتدارك أخطاءنا به، ولا نعمل على إضاءته.
* أنت تحتفل بمرور عشرين سنة على صدور أول كتاب لك، فماذا أعددت لهذه المناسبة؟
- أدشن موقعي الإلكتروني comwww.ashrafdali بشكله الجديد على شبكة الإنترنت، وهو سيضم على مراحل مختارات لكتاباتي باللغات العربية، والإنكليزية، والفارسية، والكورية، والإسبانية، والروسية، والسويدية، وأزوده من حين لآخر ببعض الحوارات المسجلة تلفزيونيا. فالإنترنت هو سوق عكاظ جديدة للآداب والفنون، وبها معلقاتنا، وسردياتنا، ومساهماتنا، التي لا أزال أعتبرها مجرد كلمات على أول الطريق، ونسعى جادين جاهدين إلى أوسطه بشغف، قبل أن تدركنا نهايته.