رؤى
غير صالح للإبداع!
سيتفتّت كبدك... حين تعرف الامتيازات التي يحظى بها المبدعون في بعض دول العالم. أعرف كاتبة دنماركية حصلت من دولتها على منحة للتفرغ مدى الحياة للكتابة الإبداعية. لا يهم، هؤلاء قوم، ونحن قوم.
من الأمور الطيبة في الكويت إجازة التفرغ للانتاج الفني والأدبي، والتي تمنح للموظف لمدة 6 أشهر قابلة للتمديد لينجز فيها عملاً أدبياً أو فنياً. يُشترط طبعاً أن يكون الشخص ممن له «إنتاج معروف ومتميز في مجال العمل المطلوب التفرغ من أجله»، وأن يحصل مشروع العمل على موافقة اللجنة المختصة في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. وتبين أن ثمّة شرطا آخر عجيبٌ عُجاب، أخبركم عنه بعد قليل!
كنت أروم هذه الإجازة منذ زمن، وأقدّم رِجلاً وأؤخّر الأخرى في انتظار أن يكون لي «إنتاج معروف». وبعد أن رسختُ في الكتابة، وبلغت من الإبداع عتياً، وصار مجموع ما نشرته 13 كتاباً ورقياً في الرواية والقصة وأدب الطفل واللغة، هذا بخلاف بعض المنشورات الإلكترونية، وأفواج من المقالات هنا وهناك، تشجّعت وتقدّمت أطلب هذه الإجازة.
جاء الرد بالموافقة من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب مشكوراً، وخاطب جهة عملي جامعة الكويت حيث أعمل مدرّساً مساعداً. بحثتْ الجامعة في أحقيتي لهذه الإجازة، ورجعت لقانون الخدمة المدنية، فوجدت شرطا يقول: «ألّا يكون الموظف من العاملين في سلك التدريس»! إي والله، هكذا تقول المادة، وكأن الإبداع لا يستطيع أن يسلك في عقول «العاملين في سلك التدريس»!
تفكّرت، ما الغاية من هذا البند؟ أهي صون العملية التعليمية من الانقطاع مثلاً؟ فخروج المدرس أثناء الفصل الدراسي سيسبب ارتباكاً ولا شك. لكن لا يعقل أن يكون هذا سببا لمنع المدرس من الحصول على الإجازة من حيث المبدأ، إذا كان يمكن أن تقول المادة مثلاً: في حال كان الموظف مدرّساً، تُمنح الإجازة له من بداية الفصل الدراسي التالي ولمدة فصل دراسي واحد، وتُجدد لفصل دراسي آخر في حال الحاجة لذلك.
لكن مهلاً، بالبحث في قوانين ديوان الخدمة، اكتشفت أن هناك أنواعاً أخرى من إجازات التفرغ كإجازة التفرغ الرياضي، وإجازة التفرغ العلمي، وإجازة التفرغ لتقديم عروض فنية، ولا تشترط أي منها ألّا يكون الموظف مدرّساً. فلماذا يُحرم المدرس من إجازة التفرغ للإنتاج الفني والأدبي تحديداً؟! أخذت أقلّب الأمر في رأسي ذات اليمين وذات الشمال، أحاول أن استكنه ما كان يدور في خَلَد الذين وضعوا هذا القانون الصادر عام 1980. فهؤلاء قوم من جيل ألمعيّ، ماذا نعرف عنه نحن؟ فربما عرفوا ببصيرتهم الثاقبة الكاشفة أمراً نغفل عنه نحن. وبعد بحث طويل اهتديت للحكمة الخافية؛ لا بدّ أن التدريس يؤثر على القدرات الإبداعية للشخص! أجل، فمن المعروف أن التدريس من المهن الشاقة، ولا بد أو واضعي القانون عرفوا أن هذه المشقة تجعل المرء عاجزا عن الإبداع، فأشفقوا علينا وكفونا مؤونة المحاولة، ومنعونا من هذه الإجازة ابتداءً. هذا لئلا تصدر أعمالنا الرديئة، فينكشف للعالم عوارنا، وكيف أثر التدريس في قدراتنا العقلية والإبداعية! لكن مهلاً، أما كان يمكن أن يحاولوا ترميم ما يصيب عقولنا - نحن المدرسين - ويمنحونا إجازة مضاعفة؟ فصل نتشافى به من مشقة التدريس، وفصل آخر نكتب فيه العمل الإبداعي.
مهلاً، مهلاً! ثبتت الرؤية أخيراً. لا بدّ أن الأدباء والمبدعين كائنات خطرة، يمكن أن تنقل جرثومة الإبداع للطلبة، فرأى واضعو القانون أنّه لا بد من اتخاذ جميع الإجراءات لإبعاد الإبداع عن «العاملين في سلك التدريس» بكل الطرائق الممكنة!
والله يا قوم لقد تحيّرت في الأمر، وإلى أن يحدث الله أمراً، فإني سأتوقّف عن نشر أي كتب أدبية جديدة حرصاً على المصلحة العامّة. أو لعلّي أغادر إلى الدنمارك لاسترجاع قواي العقلية والإبداعية التي استنزفت من كثرة التفكير في سر هذا الشرط الغريب!