No Script

مجزرة مأرب

تصغير
تكبير

يمكن النظر الى المجزرة التي وقعت في مأرب قبل ايّام من زاويتين مختلفتين. هناك اوّلا زاوية قدرة الحوثيين (انصار الله) على توجيه ضربات مؤلمة الى «الشرعية» اليمنية، مع ما يعنيه ذلك من امتلاك تلك الميليشيا المدعومة من ايران لقدرات عسكرية كبيرة.
امّا الزاوية الأخرى فهي تلك المتعلّقة بوضع «الشرعية» اليمنية والحاجة الى إعادة تشكيلها اليوم قبل غد. لا يمكن لـ«شرعية» يمنية برئاسة عبد ربّه منصور هادي مواجهة الحوثيين والوقوف في مشروعهم والحدّ من طموحاتهم.
قصف الحوثيون مسجدا في مأرب. قتلوا أكثر من 100 عسكري يمني دفعة واحدة. كانوا في غاية الدقّة في اختيار هدفهم وهو مسجد تجمّع فيه مجندون من عدن وابين يتلقون تدريبات في مأرب.


لماذا في مأرب وليس في أي مكان آخر؟ الجواب بكل بسطة ان محافظة مأرب صارت معقلا من معاقل الاخوان المسلمين في اليمن. يجري تدريب مجندين من المحافظات الجنوبية التي اخترقها حزب التجمّع اليمني للإصلاح الذي يتحرّك الاخوان الإسلاميون تحت غطائه في مأرب، احدى المحافظات الشمالية.
اظهر الحوثيون انّهم لا يمتلكون أسلحة فتاكة قادرة على الحاق خسائر فادحة بخصومهم فحسب، بل انّهم يمتلكون أيضا شبكة استخباراتية توفّر لهم معلومات دقيقة عن مواقع محددة لخصومهم اكان ذلك في شمال اليمن او في جنوبه. فقد سبق للحوثيين ان استخدموا طائرات من دون طيّار لقصف مواقع محددة في جنوب اليمن.
ليس سرّا انّه لم يتحقّق أي تقدّم في مجال البحث عن حلّ سياسي في اليمن. لم يستطع ممثل الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث تحقيق اختراق على أي صعيد على الرغم من زياراته المتكررة لصنعاء ولقاءات غير مباشرة مع زعيم «انصار الله» عبد الملك الحوثي.
استفاد الحوثيون من تحرّكات غريفيث الذي يبدو مرتاحا الى استمرار الجمود الى ما لا نهاية وذلك منذ توقيع اتفاق ستوكهولم أواخر العام 2018. مهّد ذلك الاتفاق، الذي خدم الحوثيين الى حدّ كبير، لبقاء الوضع على حاله على جبهة الحديدة في وقت انشغلت الجهات الإقليمية المهتمة بالموضوع اليمني باحتواء الوضع في عدن حيث حصلت صدامات بين «الشرعية» والمجلس الانتقالي.
لم تتوقف هذه الصدامات الّا بعد توقيع اتفاق بين الجانبين في الرياض يوم الخامس من تشرين الثاني – نوفمبر 2019. كان مفترضا في هذا الاتفاق الذي ادّى الى تهدئة الوضع في عدن ان يشكل منطلقا للبحث في كيفية مواجهة الحوثييين الذين بعثوا باشارات يفهم منها انّهم راغبون التوصل الى صفقة مع التحالف العربي في شأن اليمن.
تبيّن في نهاية المطاف ان «انصار الله» ليسوا سوى أداة إيرانية تحرّكها طهران وفق رغباتها. ليس صدفة توجيه ضربة الى مسجد في مأرب في هذه الايّام بالذات.
ارادت ايران التذكير بانّه لا تزال لديها ورقتها اليمنية وانّ تصفية الاميركيين لقاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري»، الذي كانت اليمن من ضمن مسؤولياته، لن يؤثر على نفوذ ايران خارج حدودها.
وحدها الايّام ستحدّد هل هذا صحيح ام لا. الثابت الآن ان «الجمهورية الإسلامية» ما زالت قادرة على استخدام الحوثيين لتحقيق اهداف معيّنة، بما في ذلك رفع معنويات الذين راهنوا عليها في اليمن.
اذا كان من درس يمكن استخلاصه من مجزرة مأرب، فهذا الدرس يتمثّل اوّلا في ان لا مجال للثقة بالحوثيين. هؤلاء يمكن ان يقدموا كلّ الضمانات المطلوبة منهم وان يتوصلوا الى اتفاقات واضحة مع الذين يسعون الى كفّ شرورهم عنهم.
في نهاية المطاف، من يمتلك القرار الحوثي هو طرف غير يمني. هذا الطرف هو ايران. من يريد ان يتذكّر الاتفاقات التي توصّل اليها الحوثيون مع خصومهم وكيف انّ هذه الاتفاقات اما بقيت حبرا على ورق او مجرّد كلام ليل يمحوه النهار؟
الكلام هنا عن «اتفاق السلم والشراكة» الذي وقعه الحوثيون مع عبد ربّه منصور هادي بعيد استيلائهم على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014. لم تمض ايّام على الاتفاق حتّى كان الرئيس اليمني الانتقالي في الإقامة الجبرية في صنعاء.
ما ينطبق على عبد ربّه ينطبق أيضا على الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي خاض حروبا عدّة مع الحوثيين ابتداء من 2004. اصرّ هؤلاء على الانتقام منه على الرغم من كلّ التفاهمات التي توصلوا اليها معه في صنعاء. بعد استنفاد الغرض من تلك التفاهمات اعدموه بدم بارد في كانون الاوّل – ديسمبر 2017 مؤكّدين ان لا شريك لهم في صنعاء التي تعاني يوميا من ظلمهم.
ثمّة درس آخر يمكن استخلاصه من مجزرة مسجد مأرب. فحوى هذا الدرس انّ هناك حاجة الى هزيمة عسكرية تلحق بالحوثيين. من دون هذه الهزيمة لا امل في التوصل الى أي تفاهم معهم.
الأكيد ان «الشرعية» غير قادرة على الحاق هزيمة بـ«انصار الله». معروف من طرد هؤلاء من عدن ومن اخرجهم من ميناء المخا على البحر الأحمر ومن هدّد وجودهم في الحديدة قبل ان يهبّ المبعوث غريفيث لنجدتهم لاسباب يمكن ان تكون مرتبطة بمصالح بريطانية في ميناء الحديدة المطلّ على البحر الأحمر!
مع مرور الوقت صار الوضع اليمني منسيا. لم يعد هناك من يذكّر بما يعاني منه اليمنيون جوع ومرض. صار طبيعيا ان يموت أطفال اليمن بالآلاف من دون ان يتحدث احد عن ذلك لا في العلام العربي ولا في الاعلام الدولي.
ما صار اكثر من طبيعي ان تتصرّف «الشرعية» وكأنّ كل شيء على ما يرام، اذ يكفي ان يكون رئيس الوزراء معين عبدالملك سعيد في عدن كي يقال انّ عاصمة الجنوب استعادت وضعها الطبيعي وان دوائر الدولة تعمل بانتظام.
مؤسف ان يصبح اليمن منسيا وان لا يعود الى واجهة الاحداث الّا بعد قتل الحوثيين بواسطة صاروخ باليستي هذا العدد الكبير من المجندين في مأرب. ما هو مؤسف اكثر ان لا يكون هناك أي تفكير في انّ الموت البطيء لبلد بكامله لم يعد يهمّ أحدا، علما ان الحؤول دون ذلك لا يحتاج الى اكثر من قرار جريء.
يبدأ اتخاذ القرار الجريء بالاعتراف بان هناك مأساة حقيقية في بلد ذي اهمّية استراتيجية كبيرة للمنطقة كلّها، خصوصا لشبه الجزيرة العربية... وانّ لا مجال لمعالجة هذه المأساة في ظلّ «الشرعية» القائمة التي لا تمت الى الشرعية الحقيقية باي صلة من أي نوع!
من دون هذا القرار الجريء ستكون هناك مجازر أخرى في المستقبل من نوع مجزرة مأرب... كلّما دعت الحاجة الايرانية الى ذلك.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي