No Script

جودة الحياة

عزلة اجتماعية في زمن التواصل الاجتماعي

No Image
تصغير
تكبير

ربما فكرت كثيراً في حياة الأجيال السابقة قبل اكتشاف تكنولوجيا الاتصالات الرقمية الحديثة، والتي أنتجت ما بات يعرف على نطاق واسع بالسوشيال ميديا، وربما سألت نفسك وأنت تتصفح على هاتفك المحمول الرسائل الواردة على تطبيق التراسل الفوري الواتساب أو تقرأ على عجل أو بتمهل محتويات أشهر تطبيقات التواصل الاجتماعي، عن كيف كان يعيش الناس حياتهم من دون إنترنت؟
الأمر ليس تاريخاً فقبل وقت غير بعيد لم نكن نعرف إلا القليل عن تلك الاكتشافات الحديثة، التي غيرت وجهة الحياة الاجتماعية منذ ظهورها، فالحياة المعاصرة التي تعيشها أجيال الحاضر تفتح الباب للتساؤل عن كيف كان الناس يقضون أوقات فراغهم قبل بزوغ فجر السوشيال ميديا وشبكات التواصل الاجتماعي وعصر السرعة والميديا الرقمية. يقول المفكر الأميركي وأستاذ اللغويات المعروف نعوم تشومسكي منتقداً السوشيال ميديا وبعض تطبيقاتها أنها أدت إلى انحسار وتراجع الاهتمام بالقراءة، واكتفى الناس حول العالم بما تقدمه السوشيال ميديا من معلومات سطحية، وتختلف بالطبع نظرة الأكاديمي والباحث وحتى الصحافي عن نظرة الناس العاديين عن ما تقدمه السوشيال ميديا من فوائد عظيمة، وما يمكن أن ينتج عن استخداماتها المتعددة من أضرار محققة على أعراف وأخلاق المجتمعات، لا سيما مجتمعاتنا التي تتعامل مع هذه الوسائل ربما بغير إدراك حقيقي لخطرها.
نعيش إذاً ثورة الاتصالات الرقمية الحديثة التي بفضلها صارت الحياة والعالم من حولنا بيتاً الكترونياً، نتجول بحرية في غرفه التي تتحدى مقدرتنا على العيش على ظهر الكوكب بصورة مختلفة، لم تكن متاحة أبداً إلى جيل آبائنا، تلك الثورة إرث مشترك للبشرية جمعاء، ولكن لا ينفي هذا أنها مُنجز حضاري أنتجته عقول مبدعة وفذة.


لمواقع التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا فوائدها التي لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال، ولها أضرار لا يمكن غض الطرف عنها، فهي تتيح تبادل الخبرات الحياتية في مجالات الحياة المتعددة، اكتساب معارف ومعلومات مهمة من مصادر مختلفة تحقق أغراض التواصل الاجتماعي السريع وغير المُكْلِف مع الأصدقاء والأقارب القريب منهم والبعيد عنا لظروف مختلفة سواء للعمل أو الدراسة أو غيرها من الأسباب، إلى جانب اكتساب خبرات إبداعية في مجالات ثقافيّة متنوّعة، وإتاحة التعرف والوعي المناسب بما يدور حول الإنسان من أحداث ومستجدّات في العالم الافتراضي والواقعي، فهي إذاً فرصة جيّدة لاكتساب مهارات متعددة في الحياة وفي مجالات مختلفة. ليس كل ما ينتج عن التفاعل مع الشوسيال ميديا شراً محضاً بالطبع، ولكن ثمة جوانب سلبية لاستخداماتها في الواقع، فهي تتيح فضاء غير محدود للتعرف على كل ما يمكن أن يقود إلى فساد أخلاقي وتدمير في سلوك الشباب بما تبثه من محتوى، وثمة جانب آخر وهو الانعزال الشعوري عن المجتمع الواقعي والاندماج بالمجتمع الافتراضي الذي تمثله مجموعات الصداقة في غرف الدردشة على فضاء شبكة الإنترنت أمام كل القيم والثقافات المختلفة المقبول وغير المقبول منها، لدرجة أن البيوت أصبحت مهجورة رغم تواجد جميع أفراد الأسرة فيها إلا أن كل فرد يعيش في غرفته الخاصة مع عالمه الافتراضي، كذلك تزور بعض الأماكن الاجتماعية للقاء الأهل أو الأصدقاء لتجد الصمت يخيّم على المكان رغم تواجد الجميع فيه، حتى أننا أصبحنا نحادث بعضنا من خلال الوسائط الاجتماعية رغم تواجدنا معاً في المكان نفسه، ولا تفصلنا مسافة تعيق حديثنا مباشرة وجهاً لوجه.
أصبحنا نعيش في عزلة اجتماعية في زمن التواصل الاجتماعي، ساعات طويلة من اليوم نقضيها أمام شاشات الهواتف الذكية نتبادل المعلومات ونتشارك روابط المواقع التي تنشر مختلف المواد العلمية منها والتثقيفية والأدبية وغيرها من المحتويات، وننفق ساعات أخرى في الرد على الرسائل وقراءتها وإعادة إرسالها عبر الوسائط إلى بقاع العالم المختلفة، فتطير محملة بالنصوص والصور عبر الفضاء إلى حيث وجهتها النهائية.
صرنا نتبادل التهاني في المناسبات المختلفة كالأعياد والنجاح في الدراسة أو الترقية في العمل وتقديم واجب العزاء عبر السوشيال ميديا والوسائط الاجتماعية، بدلاً من التواصل والاتصال المباشر، وقد نحصل على وظيفة ما أو سلعة كمالية أو ضرورية بالتسوق عبر الشبكة، كل هذه الفوائد الجوهرية والخيارات الحقيقية يمكن أن نتحصل عليها من التفاعل مع أجهزة هواتفنا الحديثة.
في الجانب الأخر من المشهد الأكثر إثارة وتشويقا ثمة علاقة ما بين مواقع التواصل الاجتماعي والإبداع بجوانبه المتعددة، فهي تفتح الباب واسعاً وتقدم فرصاً لا تقدر بثمن لكسب الشهرة والمال عن طريق عرض المواهب المختلفة كالغناء مثلاً أو الدعاية للمنتجات والسلع الاستهلاكية، إلى جانب قدرتها على إتاحة فرص كبيرة لتسويق منتجات المشروعات الصغيرة.
كما أن بعض المواقع لها دور خطير في تفكك المجتمعات وخلق حالة من عدم الاستقرار، بترويج بعض السلوكيات الغريبة والشاذة عن مجتمعاتنا المحافظة والخطابات والأفكار المتطرفة والاشاعات، مما يؤدي إلى تفتيتها والإضرار بنسيجها الاجتماعي.
ونحن هنا لا ننكر أبداً أن شبكات التواصل الاجتماعي منجزات حضارية عظيمة تُتيح لمستخدميها بالطبع تبادل المعلومات والقصص والتواصل المجتمعي، ولكنها تفقدنا القدرة على التواصل بصورة حقيقية. فنحن أكثر الأجيال البشرية تواصلاً في ما بيننا بفضل تلك المواقع، ولكن تلك الشبكات لا تخلو من أضرار حقيقية وماثلة للعيان، وربما يتواصل التفكير والقلق لسنوات طويلة قادمة حيال إمكانية تحجيم أضرارها ومخاطرها على مجتمعاتنا. إن التصاعد السريع لوسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة وتغييرها لنمط الحياة المعتاد كلياً، وتأثيرها الفعال على العلاقات الأسرية والإنسانية وحياة الفرد اليومية، أصبح من الحقائق الواقعية التي لا تغفل عنها أي دراسة أو بحث علمي حول السوشيال ميديا وآثارها على المجتمعات المعاصرة، ومدى تأثيرها على الصحة النفسية والعقلية لمستخدميها. ولكن علينا أن نتذكر دوماً أن التفكير الخلاق والتواصل الإنساني هو ما يجعلنا سعداء جديرين بالحياة، والإنسان وحده الذي يملك طريقة الاستفادة منها، ويملك أيضاً السبل الكفيلة لتلافي وتحجيم الأخطار الناجمة عن استخدامها.

* مستشار جودة الحياة
Twitter: t_almutairi
Instagram: t_almutairii
 talmutairi@hotmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي