فنزويلا بالنسبة لي، ليست مجرد بلد في أميركا الجنوبية يتصارع عليه بوتين وترامب، وتسيطر عليه حفنة من اللصوص بقيادة نيكولاس مادورو، بل هي مسقط رأس والدتي وأخوالي، والبلد الذي أدرّ الخير والثروة على جدي الشهم الذي هاجر في أواسط القرن الماضي كسائر أقرانه بحثاً عن حياة رغيدة.
جدي الميكانيكي المجتهد الذي حُرم دخول المدرسة كان حكيماً يتمتع بحشرية العالِم الدقيق. ثقف نفسه بنفسه وعبره تلقيت العديد من الدروس التي لازمتني إلى يومنا هذا. في منزل جدي تعرفت للمرة الأولى على سيمون بوليفار محرر ومؤسس فنزويلا وعدد من دول أميركا اللاتينية من نير الاستعمار الإسباني. فصورة بوليفار التي كانت تزين صالون العائلة وصورة جواده الأبيض «بالومو» والروايات العديدة عن مآثره جعلتني أقدس هذا البطل الذي كان يصفه جدي بـ«القبضاي والآدمي» أي الشجاع والخلوق، ويقول ان الفضل في قيام فنزويلا يعود لهذا البطل، مردداً أن فنزويلا هي «بلد الخير والكرم».
أحداث فنزويلا الأخيرة والأزمة الإنسانية والسياسية التي يمر بها بلدي الثاني وانقسام عالمنا العربي حول معاناة الشعب الفنزويلي أعادا إلى ذاكرتي مواقف جدي لأتساءل مرارا ما هو موقفه لو أنه على قيد الحياة؟ هل سيقف جدي مع الإمبريالية الأميركية التي تريد تدمير التجربة «التشافيزية البوليفارية» المتمثلة بمادورو، أو سيدعم المعارضة الديموقراطية الرافضة لسياسة التجويع والارتهان لكوبا وروسيا وإيران؟
ففنزويلا البلد النفطي والغني بالموارد المعدنية العديدة وصل إلى مرحلة خطيرة في تاريخه حيث يسيطر الفقر والجوع على أكثر من تسعين بالمئة من شعبه. وهو - حسب وصف الدراسات - يخسر سنوياً عشرة كيلوغرامات من وزنه بعد الانقطاع التام للمواد الغذائية والأدوية، وبعد وصول نسبة التضخم إلى ما أكثر من مليون بالمئة مع احتمال أن تتجاوز العشرة ملايين في المئة نهاية هذا العام.
وحسب أنصار محور الممانعة ومقاومة الاستكبار الغربي فإن معاناة الشعب هي أولاً وأخيراً نتاج العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل الولايات المتحدة التي تطمح إلى الاستيلاء على الثروة النفطية وتقويض فنزويلا الداعمة لإيران وكوبا والصين وروسيا.
إن انصار مادورو من العرب هم نفسهم الداعمون لجرائم بشار الأسد وأسلحته الكيماوية ولتغلغل الحرس الثوري الإيراني ولعصابتهم وثقافتهم الشعوبية التي تهدف وفق زعمهم إلى تحرير فلسطين. فهؤلاء يعتقدون أن طريق القدس تمر بكراكاس وأن الشعب الفنزويلي والشعب العربي لديهما الهدف نفسه أي تدمير الشيطان الأكبر المتمثل بالولايات المتحدة. واقعياً، نظام مادورو يؤمن الغطاء الأمني والديبلوماسي لميليشيات إيران التي تستغلّ أميركا الجنوبية لتبيض أموالها عبر تمريرها في قنوات تجار السلاح والمخدرات والتي أصبحت أكثر أهمية مع تجدد العقوبات على إيران.
المضحك المبكي أن انصار منطق «الممايعة» يؤمنون بأن مشاكلهم الاقتصادية والسياسية مرهونة بالخارج، ولو توقف التدخل الغربي في فنزويلا والشرق الأوسط لكانت مدرستهم الفكرية أسست لدول حديثة تعطي شعوبها الرخاء الاقتصادي وربما الأهم، الكرامة وعزة النفس والعنفوان. و للمفارقة، فإن تجار العنفوان وأسيادهم لم يدخلوا بلداً إلا ودمروا اقتصاده و نظامه الديموقراطي، وبلدان كـلبنان والعراق وسورية خير دليل على ذلك. هم يجهلون حقيقة أنه لا يمكن تخيير الشعوب بين الطعام والكرامة. فالجياع والمقموعون في شوارع العواصم التي يسيطر عليها «مدّعو الاشتراكية» لا يستطيعون الحصول سوى على ورق التواليت في المتاجر الخاوية لأن قادتهم سرقوا الأموال وانشغلوا بتصدير الثورة بدلاً من بناء دولة القانون.
لو كان جدي ما زال على قيد الحياة لكان دعم جهارة الحراك الشعبي والبرلماني الذي يقوده رئيس مجلس النواب خوان غوايدو، ليس لأنه يؤمن بنشر الديموقراطية بنسختها الأميركية، بل لأن مادورو وعصابته وحلفاءه من «الزعران» الذين أوصلوا كلاً من لبنان وفنزويلا إلى القعر هم من اختطفوا شعوبهم باسم سيمون بوليفار والاشتراكية الشعبوية.. متجاهلين شعار بوليفار «عندما يكون الظلم قانوناً، يصبح التمرد واجباً».
الله يرحمك يا جدي.