No Script

بوح صريح

لماذا حضرت المعركة مبكراً

تصغير
تكبير

أكثر ما اشتاق - حين أسكن المدن - السير وسط الحقول. وقدماي في العشب. أكثر ما أشتاق، وضع رأسي على شجرة والإنصات لحكيها. لغة مخاطبة الطبيعة التي تأخذك لطبقات عليا وتبث فيك النشوة والسكينة وتفتح عين قلبك على الجمال الخفي.
الحقل مشرع لك وكل نوافذه فرحة بمجيئك. الحقل قصيدة لغتها العالم الحالم. الموسيقى صلاته والكمنجا بدأت العزف منه. البيانو لباسه، الشجر الألحان، الغيوم الإيقاع. والعطر للعود الريشة والوتر.
السماء تهم العاشق وتلاحق نبضه. الندى لقلمه الترياق وللورقة، انتشاء الحبر ورغوة الفيض.


هل بلغت مراتب الطواف كهذا الحقل، هل شممت عطر البراءة وتحممت بغسل الضوء، وتدحرجت كنواة الخلق الأولى في رحم التراب. ثم أعدت الكرة من جديد، وأفقت لتجد نفسك تنقذ الكون وأنت في حضن الخوف. وترسم أبجدية الجمال وأنت في عين الحظ العاثر.
لكنني لا أشتاق إلى الوطن، ولا أحلم يوماً بالعودة إليه.
حين يطرق الحنين باب قلبي، إنه يدخل على شكل أغنية كان يغنيها لي أبي في بيته بجبل بحمدون. أو كعبق القهوة في كافيه عتيق مخبأ في زقاق ما في الحسين.
الوطن فكرة. ذكرى. ومضة. نظرة.. لا مكان.
الوطن هو اللوحة المائلة على جدار فاصل. هو رأسك المتناثر بين يديك بعد أن ضربته ألف رصاصة ورصاصة، وأنت عاجز الدفاع عن نفسك. لكنك إنسان... كل ذنبك أنك إنسان.
خيال جسدك المتأرجح. وهواجسك التي تأكل أحشاءك. وجهك في أرض ثالثة لم يحصها التاريخ أو تدرجها الخرائط. هل حضرت المعركة مبكراً لفرط سذاجة ووفاء متراكم. الوطن هو قراءة الشجرة. بينما الكرز يحضر الدرس بدلاً عنك.
الوطن، حين: «إذا مت اليوم» ستذهب روحي لشجرتي.
على كل منا، أن يتلمّس رأسه كل صباح. فيعيده إلى مكانه. كما تحاول ترتيب الغرفة. جمع الثياب و تنظيم المكتب. كذلك ترتب نفسك. صوتك. عقلك. قلبك. تنظف الحجرات من الفوضى وما علق/‏ سقط سهوا أثناء الحديث والصمت أو العراك... أنت المتناثر الموزع والمشتت هنا وهناك. تحتاج أن تعيد كل جزء منك لمكانه الصحيح.
الوطن، كتاب الذاكرة في وصف الزمن. خضم الماضي والناظر يحلم بمستقبل يركض بعيدا عنه. الخيانة التي ترغب الأشياء وترعب العادة.
كيف يملؤك صوت المذياع بالغضب والصور بالحزن وأنت تتمسك بآخر قطرة نقاء متبقية في قلبك. وكأن ضحكة طفل تتشبث بك رغم كل الدخان والظلام.
الوطن، الوضوح المطلق وسؤال بلا جواب وغصة كسرطان في حلقك.
الوطن، حنين إلى ماهو عتيق وحاضر رغم موته وجراح في الذاكرة عصية على الشفاء.
الوطن ليس أوراقاً ثبوتية أو سجلات إقامة وأرقام ديجتال ورموز بل رعشة رمش. خفقة قلب؛ انتماء كانتهاء والتماس. الوطن كقلب صوفي يدرك العشق بأول نبضة لكنه يختار الصمت. يختار أن يكون أخرس. ويدع كل الضجيج لعقله والزعيق لقلبه... ويكتفي.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي