No Script

الثأر ومفهوم القوة... من المستنصرية إلى بقيق

تصغير
تكبير

وأنا أشاهد صوراً للهجوم الإرهابي على معملي أرامكو في بقيق وخريص السعوديتين حضر إلى ذاكرتي مشهد صدام حسين وهو يحتضن طفلة نجت من هجوم على حفل في جامعة المستنصرية في بغداد حضره أطفال من المدارس عام 1980 وبتزامن مع قصف قرى حدودية.
صدام أمسك بثوب للطفلة عليه آثار دماء وقال لها احتفظي به ليوم عرسك.. وسآخذ ثأرك!!.. وقتها كنا أطفالا فصفقنا بنشوة للمشهد البطولي الذي ننتظره دائما في الأفلام الهندية وأفلام الكاوبوي وفتوات الحارة المصرية.. ويساعد في خلق تلك النشوة أن أهلنا كانوا في الغالب أميين حديثي العهد بحياة الصحراء القاسية التي تشكل قصص غزواتها وأشعارها المادة الرئيسية لمجالسهم.
بعد ذلك المشهد بدأ مشوار الحرب وكلا البلدين يدعي أن الآخر هو من بدأ فإيران تتهم صدام بقصف البلدات العراقية ليجد ذريعة للحرب.. وصدام كان يعد العراقيين بالثأر.. ونحن نصفق.


كبرت حرب الثأر وكبرنا معها نتابع كل ليلة صور القتلى من الطرفين حتى بدأت تتبلور أفكارنا وصرنا نسمع عن أحوال لم تكن تعرضها شاشات التلفزة مع هدير المدافع ومظاهر القوة الباعثة على نشوة الفخر.. فالضعف والهوان كانا منكفئين خلف جدران البيوت ومنها الأسرة العراقية.
الشعب العراقي عرف بطرافته وتفننه باستخدام مختلف فنون الأدب للتعبير عن قضاياه فانتشرت في أواخر سنوات الحرب أهزوجة تقول على لسان طفل عراقي:
«متى يستشهد بابا ويجيبونه بتابوته.. وأمي تاخذ الوافد وانا أخذ السيارة».. فصدام كان يقدم سيارة لأسرة كل شهيد في الحرب بينما صدر مرسوم يمنح بموجبه الجنسية العراقية لكل وافد يتزوج أرملة شهيد.. وبذا تكون أسرة الشهيد انتهت إلى أرملة متزوجة من وافد، وابنه أو أبيه سائق تاكسي!!
في الطرف الآخر كانت إيران التي أطلقت على الحرب اسم «المقدسة» تقدم لشهدائها مفاتيح لبيوتهم في الجنة تدفن معهم مخلفين وراءهم أسرا قوامها الأيتام والأرامل..
انتهت تلك الحرب بعد ثماني سنوات مخلفة وراءها مليون قتيل من الطرفين نصفهم من المدنيين، وخسائر مالية قدرت بـ 400 مليار دولار (في فترة الثمانينات) أما الحدود الجغرافية فلم تتغير.. فقط نقص تعداد الشعوب وزاد عدد المعاقين والأيتام والثكالى.
وعن المكاسب فانقسمت بين صناع مفاتيح الجنة... وشركة السيارات... فيما استمر عراق صدام وإيران الملالي يغامران بمصائر الشعوب ويعتاشان على دمائها فنقل صدام ما تبقى من جيشه إلى الكويت كما انتقل الإيرانيون أخيراً إلى الساحة السورية.
أما نحن فكبرنا.. ورأينا حقيقة مصير الطفلة التي احتضنها صدام تتجسد في كل طفلة عراقية تتصدر صورها اليوم من منصات الأخبار وهي تبحث عن كسرة خبز هنا وهناك فصاحب التاكسي مات وحديده بلي.. في مشهد ختامي لفيلم بطولي صفقت له طفولتنا ورجحت عقولنا مع مشهده الأخير المذل والمهين.
واقتصاديا كان الأميركي يشتري الدينار العراقي بثلاثة دولارات ونصف الدولار... واليوم يقدم العراقي ألفا ومئتي دينار ليحصل على دولار واحد.. ومثله الإيراني الذي يقدم اثنين وثلاثين ألف ريال ايراني ليحصل على دولار واحد كان يشتريه قبل ثورة الملالي بمئة ريال فقط!!
مشهدا الفخر والهوان وما بينهما من كوميديا سوداء.. نسوقهما هنا لكل من يطبل للحرب ويحاول أن ينتقص من قدر السعودية على وجه الخصوص ودول الخليج بشكل عام كما جاء في تصريح لوزير خارجية إيران جواد ظريف الذي يقول إن بعض الدول تريد أن تحارب حتى آخر جندي أميركي..
فقد رجحت عقولنا وعرفنا أن أعلى درجات القوة أن تحقق أهدافك وألا تحقق ما يهدف إليه عدوك بجرك إلى مستنقعه الذي اعتاد أخذ شعبه إليه... فضربة بقيق وخريص تماما كقصف القرى العراقية الحدودية لم تعترف بها طهران بل اتهمت بها صدام عندما بدأ حربه معها.. ما يعني أن الحرب لم تفرض علينا بعد.
وتمثل المهمة التي تتطلب قوة القرار لدولنا في الحفاظ على مكتسباتنا التنموية والمضي قدما في المشاريع المطروحة من رؤية المملكة 2030 إلى رؤية الكويت 2035 ورؤى بقية دول المنظومة التي تعد بمستقبل أفضل لهذه الشعوب بدلا من زجها في أتون حرب لم تفرض بشكل واضح مع عدو لا يزال شعبه يعاني شظف العيش.
وحتى إن فرضت تلك الحرب فدول الخليج لديها خيارات تسبق أرواح شعوبها إذ تعتبر هذه الدول إنسانها مشروعا تنمويا رئيسيا على عكس عقيدة من يجعلون أرواح شعوبهم أخشابا تشتعل لتزود بقاءهم بالحياة.
نعم لا نريد ولا تريد لنا دولنا أن تُستبدل سيارة بنا.. ولا أن تأتي أمم من بعدنا فتجد بقايانا مفاتيح صدئة في مقابر جماعية... فالحرب لم تفرض بعد.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي