لا زحامَ خانق، ولا طوابيرَ من المعجبين شبه المُسَرنَمين المتقاطرين من أجل توقيع أو صورة مع المؤلف. لا معرض للكتاب هذا العام. ولعلها فرصة ميمونة لإعادة النظر في خياراتنا القرائية.
حينما كنت صغيرة، في الثمانينات والتسعينات، سمعت بمصطلح «أفلام المقاولات»، وهي أفلام ذات قيمة متدنية، هدفها الربح من بيعها على أشرطة الفيديو التي كانت رائجة آنذاك. من الفترة ذاتها أتذكر أيضاً مصطلح «الأغنية الهابطة». ورغم أنني لم أفهم معنى المصطلحين حينها، إلا أنني أتذكرهما جيداً. الغريب أنني أعجز عن تذكر أي أغنية وُصمت بأنها هابطة، أو فِيلم صُنف أنه فِيلم مقاولات. ولا تفسير لهذا إلا بأحد أمرين: إمّا أنّ ذاكرتي سيئة جداً، وإمّا أن هذه الأفلام والأغاني نُسيت فعلاً! والحق أنّي أشتكي من ذاكرتي أحياناً، لكنّ كوني أتذكر مصطلحات معقّدة على دماغ طفلة مثل «الأغنية الهابطة» و«أفلام المقاولات» يعني أن ذاكرتي لا بأس بها، ومسألة عدم تذكري لعناوين الأفلام والأغاني يعني ببساطة أنها أخفقت في أن تحجز لنفسها مكاناً في ذاكرتي.
إذا نظرنا إلى وضع الكتب هذه الأيام، فإن مصطلح «كتب المقاولات» أو «الكتب الهابطة» مستحق جداً! كتب رديئة، منخفضة القيمة الفكرية، مكتوبة بأدوات فنية ضحلة، ولغة ركيكة. التاريخ يعيد نفسه لكن في مجال آخر. ولأن التاريخ لا يحب المفاجآت، يمكننا بناءً عليه أن نتوقع أن هذه الكتب رغم رواجها الواسع لن يتذكرها أحد بعد عقد أو عقدين من الزمن. ستكون حققت لأصحابها شهرة وقتية، وجلبت لهم ثروة طيبة، لكن التاريخ (وهو انتقائي جدا ولا يعجبه العجب، صدقوني!) لن يقبل أن يضعها في سجل الأعمال الخالدة التي تتوارثها الأجيال.
مرحى، جميل، تصفيق! الرداءة تفنى، ولا يصح إلا الصحيح... مهلاً، مهلاً! هناك جانب آخر علينا النظر إليه. هذه الأعمال (كتب، أفلام، أغانٍ، مسلسلات، مواد الإعلام الجديد) لن تمر مروراً سمحاً، ثم تمضي إلى غياهب النسيان. هذه الأعمال مقتنعة تمام الاقتناع أنّها ظاهرة عظيمة لم تنجب البشرية مثلها. هي تشعر هكذا بفضل الجماهير الغفيرة التي تتزاحم عليها فتسدّ عليها الأفق، وتحرمها رؤية سيرورة التاريخ. تفرد هذه الأعمال جناحيها وعضلاتها، تمارس جبروتها، تطبع بصماتها، ثم يكنسها التاريخ. ورغم هذا، لا يمكن أن نقول إنها ستمرّ دون أن تؤثر، هذه نظرة تسطيحية مفرطة التفاؤل.
يقول المبدأ الاقتصادي «العملة الجيدة تطرد العملية الرديئة». لكن «العملة الثقافية الرديئة» قبل فنائها تثير زوبعة، تقيم الدنيا ولا تقعدها، تخفّض «المتوسّط الحسابي» للذوق العام، تغيّر المقبول، فيصير لدينا «مُعتاد جديد»؛ أمر كان في الماضي غريباً أو غير وارد، ثم يصير طبيعياً. أجل، هي عملية تطبيع مع الرداءة. الغُثاء لا يخلد، لكنّه لا يفنى دون أن يخلّف تركة تُقسّم على أبناء الجيل جميعاً. ما كان للرداءة التي تشهدها السينما اليوم أن تحدث فجأة، لقد مهدت لها أفلام المقاولات التي نسيها الناس. وهذه الكتب الرديئة التي نراها اليوم ستمهد لما هو أدهى وأمر للجيل الذي لم يُولد بعد. هكذا تتهافت الجودة، ويتداعى الاحترام، وتتسفّل الذائقة، فالانحدار لا يحدث في الفراغ.
ستسأل وأنتَ القارئ: كيف أقاوم هذه الموجة؟ أشهّر بها؟
إياك! أن تفعل، تنشر رذاذها في الأرجاء، وتمنحها نجومية مجانية، ولا ينوبك سوى البلل. لا تهاجمها. اِنعمْ في سكونك، كن انتقائياً وصعب المزاج كالتاريخ. انتقِ لحياتك وأحبّتك أطيب شيء، لأنك مخلوق مستخلَف مكرَّم. راقب الموجة تجرف مَن يقترب منها، ثم راقب التاريخ كيف يتصرّف معها. وحينما يحذو الكثيرون حذوك، ويعي الكثيرون وعيك، يمكن للموجة أن تمرّ دون أن تحمّل كاهل الجيل ميراثها.
اجلس على شاطئ السكينة واقرأ كتاباً منتقى بوعي؛ كتاباً اخترته أنت لأنك لا ترتضي لعقلك إلا الأفضل. أما إذا هان عليك عقلك، فلا يسعك سوى «أن ترعى مع الهَمَل» كما يقول الطغرائي!