No Script

قراءة نقدية

استنطاق الأشياء... في روايات سعود السنعوسي

u0633u0639u0648u062f u0627u0644u0633u0646u0639u0648u0633u064a
سعود السنعوسي
تصغير
تكبير

يشغل نتاج سعود السنعوسي شريحة كبرى من القراء، ذلك أن الكاتب الكويتي قدر أن يكرس تجربته للمستقبلين من الوطن العربي وخارجه عبر تجارب لافتة، كما أنه قدم في الرواية أكثر من لون سردي يجتذب الذائقة العامة مثل ما قدم في: سجين المرايا وساق البامبو وفئران أمي حصة، وما قدمه للقارئ المختلف في حمام الدار وربما ناقة صالحة، ومن الملاحظ أن الناص - من بعد تجربة ساق البامبو - اتجه إلى الاشتغال على تضمين روح الكائن الصامت وإنطاقه بما يخدم فكرة العمل ويفتح أبواباً على عوالم رحبة من التأمل واستنطاق الموجودات ثم إشراكها في بطولة العمل إن لم يكن تضمينها هو روح النص.
الكائن: الرمز والتجسيد
كانت البداية مع فئران أمي حصة، الرواية التي قدم من خلالها الكاتب قلقه الخاص الذي يمس الشارع الكويتي وما يزعزع أمنه من عواصف الطائفية. قامت الرواية بخلق حالة إنذار، وتحذير، في قالب سردي قوامه يوم واحد فقط ينتقل فيه البطل بسيارته بين ضفتين يفصلهما نهر الموت الآسن، ويقوم البطل من خلال هذه الرحلة باستذكار الماضي ونبش الحاضر وترتيب الأحداث التي تشكل في متن الرواية نقاط التحذير والأسباب والنتائج التي أراد أن يلفت لها ضيفه القارئ. في هذه الرواية اعتمد الكاتب على الفئران الأربعة: «شرر وجمر ولظى ورماد» فصارت الفئران أطرافاً متحركة تمشي بالرواية عبر مسارها السردي، وتحمل فوق أجسامها الحكاية وتقرض بأسنانها سور الوطن الآمن.


فمن هو الفأر هنا؟
يعتبر الفأر رمزا للنحس في بعض الثقافات، كما في ملحمة حرب الضفادع والفئران من الثقافة اليونانية، والفأر يُلقي بفكرة سوء الطالع كما في ثقافات أخرى، الكاتب في روايته فعّل فئرانه لتحمل أسس الرواية الضمنية في العمل، وهي التي تحمل عنوان (إرث النار)، وفعّل رمزيتها في حمل الخراب لأرض الوطن.
ثم قدّم الناص حمام الدار، العمل الذي قفز فيه الكاتب على توقعات القارئ عبر اشتغال ذكي ولامع، ليُنطق من خلاله صمت الأشياء والكائنات ويشغل فكرة المتلقي أيضاً.
في حمام الدار لم تكن البطولة للحمام فقط، فقد شاطرت الحمامات المُسافرة كائنات أخرى في بطولة العمل، وفي الواقع لم تكن الكائنات الأخرى - هنا - محصورة بالرمزية بل لنقل: امتدت لتّقدم ما يمكن أن يُسمى برمزية الرمزية!
ففي النص كان الكائن يقدم كرمز ثم كتجسيد ليخلق حالة من التصوّر الحسي والشعوري في الوعي، فتارة تكون قطنة خادمة مستضعفة ومستغلة وتارة تكون شاة بيضاء وتارة تكون امرأة متمردة ومُحرضة على الخلاص من سطوة الكاتب وفي لحظة ما ممكن أن تكون كلها معا، ولا يُعلم إلى ماذا يُمكن أن تؤول بعد ذلك.
«كُنتُ مطرقة مترددة وقت قطّب مؤلفنا حاجبيه. نظر إليّ شاخصاً. تمتم: مممممـ هذه أنت يا قطنة! هززتُ رأسي. حدثيني عنكِ وعما يجري هنا. أجفلتُ. أنا! فرّ صوتي. ابتلعتُ ريقي قبل أن أُردف. كيف لي أن أعرف مالا تعرف؟»
حمام الدار ص: 88
فالكاتب هنا قد تجاوز تجريب الأنسنة، ولم تعد الكائنات محصورة في إطار الرمزية بل تعدى إلى مستويات أعلى من التأثير.
أما في ناقة صالحة، فالأمر أخذ بُعدا أعمق، فقد اعتمد الناص توزيع الحكاية على الشخوص كـ نظائر، فهنالك صالحة الثكلى وهنالك ناقتها (الخلوج)، وذلك التناسخ المُتقن بين الحياتين، اليُتم والتقادم والارتباط والأمومة والجوع ثم التيه والفقد. ثم يدور بنا العمل لتكنيك آخر اعتمده الناص لتوريد فكرة الغربة والنفي والهجرة، وهو ربط رغاء الناقة وما يحمله من رمزيات قديمة وُظفت في الأدب العربي والشعبي أيضا بـ قصائد دخيل بن أسمر «الشخصية التي خلقها حرف الرواية وصدّقنا واعتقدنا بوجودها» ثم بقصائد الشاعر دخيل خليفة، هذا الرغاء المشبع بالحنين ولوعة الفقد ماذا يمكن أن يحمل؟ أيكون هو عينه بوح القصيدة في بُعد آخر من التلقي؟
- أشياء المكان والزمان:
من الممكن أن يتم تقسيم روايات سعود السنعوسي وفق هذه الأزمنة:
- الماضي: كما في ناقة صالحة.
- المعاصر: كما في ساق البامبو وسجين المرايا.
- المستقبل التخيلي كما في فئران أمي حصة.
- اللا زمن: كما في حمام الدار.
ومن الملاحظ أن الروايات كلها أرفدت صورة المكان بتأثيث ذكي يتناغم مع الزمان ومستلزماته، فالسرد في ناقة صالحة يستدعي أشياء الصحراء فنكاد نسمع حواراتها التي تتضافر مع الشخصيات والحدث ليكتمل العمل، كل مكونات الصحراء تحكي، الرمل، رمث النار، الأعشاب المتصبرة، ثم بيت الشّعر والنار الأليفة قربه، المزودة التي يحملها أهل البادية، ترسم في أخيلة المتلقي صورها وتهمس في روعه ببوحها الخاص، وحين ينتقل «دخيل» من البادية إلى الكويت نجد أيضاً أن المكان يعبّر عن نفسه بخصوصياته وأُناسه.
بوح الأشياء هذا نتلقاه في كل أعمال الناص بفنية عالية، ليُحيلنا لحالة التماس الحميم مع روح العمل.
اللغة النابضة:
اللغة كائن متحرك بالأصل، ناطق، نابض وحيوي، لكن يبقى أنه على الناص أن يُحسن الاشتغال عليها وتوظيف تقنياتها حسب أجواء النص، مما لا يُشكل نشازا لدى القارئ أو عزلة، أو إقصاء عن المعنى. في نتاج سعود السنعوسي اللغة ذكية وموظفة بما يخدم العمل، تبدو لغة الناص سيالة في مجراها الذي يروي عروق النص ويقدمه للمتلقي نضرا وشهيا.
ففي فئران أمي حصة بدت المفردات متناغمة مع جو الرواية، الحواريات مُقنعة، المفردات متناغمة مع المكان والزمان والقضية.
وفي حمام الدار كانت اللغة محترفة تشبه كثيرا روح الكاتب الذي يخلق النص اللقيط والنص النسيب ويحيّر القارئ بينهما.
أما في ناقة صالحة فجاءت اللغة موغلة في الأصالة، والتراكيب حملت متلقيها إلى روح البادية، مما خلق حالة من التواصل مع روح العمل.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي