No Script

قويٌّ في طائفته... أم في استقامته ... حكمته وصواب رؤيته؟!

تصغير
تكبير

بين عام 1994 ولغاية استشهاده، في فبراير - فبراير 2005 شكّل الرئيس رفيق الحريري المحور السياسي الأساس في السياسة اللبنانية ولم يكن فقط، السياسي القوي في طائفته، لا بل الأقوى بين كل السياسيين وعمليّاً في كل الطوائف.
أما أسباب قوته فنبعت من عوامل عدّة: ثراؤه، علاقة وثيقة مع الرياض ودول الخليج وكذلك مع أركان الوصاية السورية (خدّام، الشهابي) علاقات دولية لم يسبقه إليه أحد، (صداقته الوثيقة مع شيراك نموذجاً).
مع الحريري أو ضدّه، عارضته أو عاضدته، أيّدته أو خاصمته، كان الحريري يشي بالثقة! أشهد وأنا الذي جمعني به بحكم عملي أكثر من لقاء أنه كان الأبعد والأكره للطائفية والمذهبية وأكثر إلحاحاً وتمسّكاً بالصيغة اللبنانية القائمة على التوازن.


من فبراير - فبراير 2005 لحينه، حلّ أمين «حزب الله» السيد حسن نصرالله مكان الحريري. وبذلك انتقل القوي لا بل الأقوى عمليّاً على الساحة اللبنانية، من «قريطم» إلى «حارة حريك»، ومن «دمشق» إلى «طهران»!
لست على دراية بالمزايا الشخصية لنصرالله، لكن قوّته تكمن - وهذا أمر متداول وبديهي- كونه الممثّل المقيم لنظام الملالي في طهران، والذي يدير «كومنترين» الشيعي شبيه بـ «الكومنترين» الشيوعي زمن الاتحاد السوفياتي السابق.
ومنعاً للتكرار فلا ضرورة للاستفاضة بالتعليق على الثقل العسكري والمادي لـ «حزب الله» المدعوم من طهران. في الخلاصة، نصرالله، كالحريري، سابقاً، أضحى ليس فقط القوي بل الأقوى عمليّاً في كل الطوائف، هو الذي حرّك ويحرّك البوصلة السياسية كما يرغب، وهذا ما أشار إليه ضمناً المطران عودة في إحدى موعظاته!
ولا ضرورة لاستعراض أمثلة لتأكيد ذلك منعاً للتكرار! وبما أن الشيء بالشي يُذكَر فهناك أوجه تشابه تجمع بين «الكومنترين» الشيوعي والشيعي وأهمها السلطوية واللجوء إلى العنف والقمع.
فعلى سبيل المثال، فكما قمَع «المركز» (موسكو) ما سُمِّي بـ «ربيع براغ» 1968 حين اقتحمت دبابات موسكو عاصمة تشيكوسلوفاكيا، ها هو (الكومنترين) الشيعي يحذو حذو نظيره الشيوعي، فيعمل على قمع الانتفاضة في إيران، العراق ولبنان...
ناهيك عن البطش العسكري ضد السوريين الأبرياء (تطهير مذهبي لإحلال أناس شيعة من بلدان أخرى...) بحجّة مهاجمة الإرهابيين في حين يتواصل مع «طالبان» - في أفغانستان ويستضيف أركان «القاعدة» في إيران وعلى رأسهم نجل الإرهابي الأول أسامة بن لادن!! فتّش عن المصالح!!
مناسبة ما سبق، الكلام الذي تم تداوله أخّيراً حول ضرورة اختيار الأقوى بين طائفته لإشغال الرئاسات الثلاثة... خاصة الرئاسة الثالثة بعد شغورها أثر استقالة الرئيس سعد الحريري.
وهذا ولعمري بدعة بغيضة تشكّل طعنةً في ظهر الديموقراطية السليمة التي نسعى إليها ونعمل على تعزيزها بمختلف الصعد، علماً أن الدستور لم يأتِ على ذكرها.
هي بدعة ابتدعها من يهوى الأقلوية والطائفية والشوفينية، والتي لم يشهد التاريخ السياسي اللبناني مثيلاً لها! فليس المطلوب أن يكون المسؤول، قويّاً في طائفته، بل قويّاً في نزاهته، حكمته، رجاجة عقله، صواب رؤيته، انفتاحه، وترفّعه عن المصالح الخاصة والشخصيّة، وإخلاصه للبنان الواحد الموحّد!
بِئس هذا اليوم الذي تختار فيه الطوائف المسؤولين، السياسيين أو غير السياسيين! وإذا صحّ أن على دار الإفتاء كما أشيع - أن توافق على اختيار رئيس الحكومة - فهذا قد يسري على جميع أركان الطوائف الروحية لإشغال المناصب الحكومية وغيرها... فهل يُعقَل ذلك؟
ويقيني أن هنالك مسؤوليات جمّة أكثر إلحاحاً مُلقاة على عاتق دار الفتوى كتعزيز الاستثمارات للأوقاف الإسلامية، تعديل المناهج في كلية الشريعة التابعة لدار الفتوى، تثقيف أئمة المساجد وزيادة علومهم الفكرية والفلسفية والتأكيد على رسالة الإسلام الصحيح القائم على الشورى، المساواة والديموقراطية... إلخ، وفي حين أنهم يريدون رئيساً قويّاً في طائفته.
فالمفارقة أن الرئيس الذي وُصِفَ بالضعيف، ولم يحظَ ليس فقط بتأييد الأقطاب السياسيين لطائفته ولا حتى بتأييد بطركها، كان الأفضل والأحسن والاكثر نزاهة ووطنيّة مقارنةً بكل الرؤساء. أعني الراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب!
لا أريد - منعاً للإطالة - أن أستعرض منجزات الرئيس شهاب لكن يكفي الإشارة إلى ثلاثة أمور: أن الفضل ببناء دولة الاستقلال بعد الحصول على استقلال الدولة، والتعبير لشهاب يعود له.
الأمر الثاني فهو أنه باستثناء عهده فلقد انتهت معظم العهود الرئيسيّة بأزمات سياسية عميقة لا بل باندلاع عمليات عسكريّة زعزعت أركان الكيان. أما الأمر الثالث فهو الإجماع على نزاهته ونظافة كفّه.
استشهد بأحد ألدّ أعداءه وخصومه السياسيين... «كان كل مدّة ولايته في قيادة الجيش ورئاسة البلاد نظيف اليد لم تُغرِه المادّة ولم يجمع منها غير ما هو في حاجة إليه. عاش فقيراً موفور الكرامة ومات ذلك. تسلّم الحكم وفي رأسه إصلاح أجهزة الدولة ومحاربة الفساد...» (مذكرات كاظم الخليل، «النهار» 30-4-1990).
وعند استعراض من هو القوي ومن هو الضعيف، يخطر بالبال أيضاً السياسي البارز الراحل المخضرم الدكتور ألبير مخيبر، وهو الذي أظهر قوة لا تُنسى وتمسُّكاً بمبادئه حين تمسّك بالبقاء في بيت مري، ورفض الذهاب إلى ثكنة الفياضية عام 1982 لانتخاب الشيخ بشير جميّل رئيساً للجمهورية، في حين صوّت آخرون له، إما عن قناعة وإمّا مُطَأطئي الرؤوس أو بناء على إغراءات مالية...
(يُراجَع في هذا الصدد كتاب ضابط المخابرات الأميركية السابق Wilbur Eveland، “Ropes of sand” 2018 والذي ذكر فيه اسماء بعض السياسيين والمبالغ التي تلقّوها لقاء انتخاب الجميّل رئيساً).
يومها قال مخيبر... «لم أنتخب الشيخ بشير جميّل، لأن لبنان الذي يريده ليس لبنان الذي أريده».
والمُلفِت أن المطالبة بالقوي في طائفته (واللجوء إلى تعبير مطّاطة كالمكوّنات... إلخ) يتزامن مع إطلاق شعار التوافقيّة /الميثاقية والذي مع الأسف الشديد يترافق ويتلازم مع عنصريّة لا تُخفى!
فالتوافقيّة، مع الأسف تعني عندهم إن المقرّبين من أركانها يحظون بالمشاريع والصفقات على حساب الخزينة والمواطن وتعني أيضاً في جملة ما تعني وقف التعيينات في الفئات ما دون الفئة الثالثة.
فبِئس هذه التوافقية/الميثاقية التي لم يعهدها لبنان في الزمن الغابر والجميل، زمن السياسيين الأنقياء، المخلصين لبلدهم وللبنان الواحد الموحّد. فيقيني إنه إذا كانت النفوس أمّارة بالسوء فلا نفعَ... للنصوص والاتفاقات المعقودة على المصالح الشخصية والطائفية.
جوهر الموضوع يكمن في النفوس الصالحة التي تهدف إلى الصالح العام. يخطر في البال على سيرة التوافقية والزمن الغابر الجميل ما حدث في عهد الرئيس الراحل بشارة الخوري حين طلب أثناء انعقاد مجلس الوزراء من رئيس وزراءه أن يستعرض أسماء المرشحين لملئ المراكز في الفئة الأولى.
بدأ رئيس الوزراء باستعراض الأسماء: ميشال، مارون، الياس، جورج... فوجِئَ الشيخ بشارة، وقال: «سامي بِك شو خليتلّي».
سامي بِك، هو الرئيس سامي الصلح. كان يكفي أن يُقال سامي بك حتى يعرف السامع أن المعني والمقصود هو الرئيس سامي الصلح! يومها، لم يكُن من المعتاد أن تطلَق «الباكوية» على الفاسدين والمارقين ولا على حديثي النعمة أو الذين كانوا يملأون جيوبهم بأموال خارج الحدود.
معاذ الله! كانت «الباكوية» صفة الأصيل ابن الاصيل، كانت للكبار في تواضعهم وفي وطنيّتهم وترفعهم واخلاصهم لبلدهم، وتمسّكهم بالتوافقيّة الصحيحة الهادفة لتزخيم وحدة لبنان واللبنانيين! سقى الله أيامك، سامي بِك. رزق الله!
والمُؤسِف أن دعوة التوافقية/الميثاقية ترافقها عند البعض نزعة عنصرية، كالحديث عن الجينات اللبنانية والتميّز اللبناني المبني على العنصرية، كما صرّح في أكثر من مناسبة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، الامر الذي أثار إعجاب وثناء معلِّق الشؤون العربية في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية تسفي بارئيل قائلاً: «جبران باسيل وزير الخارجية اللبناني هو زعيم التيار الوطني الحر وكلماته تضاهي بل تفوق الخطاب العنصري لأقصى شخصيات اليمين في اسرائيل» (صحيفة «هآرتس» 3-7-2019).
والسؤال هو: تُرى هل بهكذا دعوات نسعى إلى رفع لواء لبنان الموحّد أم إلى تمزيقه؟ إنه لأمر مخزٍ أن يتم اختيار أي رئيس أو مسؤول بناء على مدى قوّته في طائفته، وهذا يجب أن يسري على كل المناصب والمراكز، ثم أنّ هذه المعادلة السيئة ستجعل من المسؤول المعني الأضعف والأكثر استعداداً للتهرب من مبدأ المحاسبة والمساءلة انطلاقاً من تمسّكه بطائفته كرادع... لأيّة مساءلة!
جئنا سابقاً على أن النزاهة والاستقامة ونظافة الكف من أهم المواصفات المطلوبة لأي مسؤول. في هذا الصدد يحلو لي أن استشهد بما ذكره لي أحد مسؤولي القصر الجمهوري أثناء ولاية الرئيس شهاب. قال لي، أن الراحل الكبير حين غادر قصر صربا بعد انتهاء ولايته، وقف أمام تمثال صغير للسيدة العذراء على مدرج القصر، وقال: «يا عدرا، متل ما دخلت متل ما خرجت».
تُرى كم من مسؤول بإمكانه أن يردّد ذلك؟!
رحم الله فؤاد شهاب.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي