قيم ومبادئ

بالجدل يقل العمل

تصغير
تكبير

جاء الإسلام لحسم مادة النزاع المؤدية إلى الجدل والشقاق، كما جاءت النصوص الآمرة بالوحدة والاتفاق عن طريق توحيد مصدر التلقي في الكتاب والسنة، وعلى منهج سلف الأمة، ونبذ كل قول يخالف هذا المنهج، حتى يلتئم الشمل، وتتوحد الصفوف، وتتآلف القلوب. قال تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا). ولم تعرف الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل الجدل والسفسطة والاتجاه المعاكس، أو حرية النقد والاعتراض، إلا في عصورها المتأخرة حديثاً تحت شعار الحقوق المدنية، والحريات المزعومة!

وتحديداً في القرن الرابع الهجري ظهرت آفة التقليد والجمود المذهبي في الفقه الإسلامي، وتعصب أصحاب المذاهب لأئمتهم وأنزلوهم فوق منزلتهم البشرية، حيث جعلوا أقوالهم وفتاواهم مُقَدّمة على القرآن والسنة، بل حتى قال قائلهم: كل آية أو حديث يخالف قول الإمام فهو مؤول أو منسوخ!


إلى هذا الحد بلغ التطرف والغلو في أقوال الأئمة، حتى دبّ الجدل العقيم بين طلاب العلم في العراق واليمن والشام ومصر وبلاد المغرب العربي، بل قامت بينهم حروب، وسالت الدماء، بسبب الجدل الفقهي العقيم، وقد أثبت المؤرخون أمثال الحافظ بن كثير، والذهبي وابن الأثير، والمقريزي، والجبرتي هذه الصفحات السوداء في التاريخ الإسلامي الطويل، وها نحن اليوم نعيش هذه الظروف نفسها من اختلاف الآراء وتعارض الأفكار وتنافر النفوس، حتى أصبح كل حزب بما لديهم فرحون.
ومن جانب آخر، انحسر الفقه الإسلامي عن واقع الحياة، فوجد الأمراء والملوك والسلاطين آنذاك ضالتهم في مصادر أخرى للتشريع الإسلامي من أعراف واستحسان أو تحايل من علماء السلاطين للتملص من أحكام الشريعة أو حتى قوانين قديمة وبقايا ديانات سماوية فراحوا ينهلون منها أحكام المعاملات والأقضية أو السياسات العامة في الإدارة وشؤون السلطنة والحكم، وبهذا أُقصيت الشريعة وزاحمها في حكمها آراء الرجال في المحاكم الإسلامية، واستمر الحال على ذلك قرابة ستة قرون، تراكمت فيها الأخطاء، وتربّت عليها الأجيال، إلى أن بزغ في نجم السماء نجوم تتلألأ، استضاءت بنورها البشرية، حيث أحيت علوم الشريعة وأعادت الهيبة لنصوص الوحيين - الكتاب والسنة - مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يبعث الله على رأس مائة عام لهذه الأمة مَن يُجدد لها أمر دينها).
فجاء شيخ الإسلام ابن تيمية في بلاد الشام ومصر، الذي دعا إلى الاجتهاد لمواجهة النوازل، وردّ على المتعصبين للمذاهب، وأبطل حججهم بفتح باب الاجتهاد، وجاء الشوكاني في اليمن، وصديق حسن خان في بلاد الهند، والألوسي في العراق، والإبراهيمي في بلاد المغرب، وأخيرا وليس آخرا الإمام محمد بن عبدالوهاب مجدد الإسلام، وقامع البدعة، الذي أعاد نور الوحي في الجزيرة العربية، بعدما سيطرت عليها الخرافة.
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا جلوساً على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر، هذا ينزع بآية، وينزع هذا بآية، وعلت أصواتنا، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما تفقأ في وجهه حبُّ الرمان فقال: (ياهؤلاء أبهذا بُعثتم؟ أم بهذا أُمرتم؟ لاترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض). وهذا التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم يتناول كل من شكّ في القرآن بكونه كلام الله تعالى، ويتناول الخوض في مسائل عقيمة، هل هو مُحدث أو قديم؟ أو يخوض في المتشابه من الآيات المؤدي إلى الجحود والفتنة وإراقة الدماء، مثلما فعل الإسلام السياسي في ثورات الربيع العربي.
الخلاصة:  قال معروف الكرخي: (إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبدٍ شرّاً فتح له باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل).

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي