No Script

هل يطيح «كورونا» والدَين باحتياطي الذهب اللبناني؟

No Image
تصغير
تكبير

يبقى احتياطي الذهب اللبناني، وقيمته السوقية تراوح بين 16 و17 مليار دولار، بمنأى عن "التصرف" بحكم نصٍ تشريعي صريح لا يمكن تَجاوُزه إلا بنصٍ تشريعي مغاير سنداً الى حكمة "القرش الأبيض لليوم الأسود". وها هو السواد يغلّف غالبية مقوّمات البلاد ويضرب في عمق ناتجها المحلي، وسط ازدياد الحاجة الملحّة للسيولة في زمن الانهيار المالي والنقدي ووطأة وباء "كورونا" على الاقتصاد والمجتمع.

ورغم صعوبة تَوَقُّع "زرْع" قناعة كافية لدى غالبيةٍ نيابية والخوف من انتزاع العامل المادي والنفسي الذي يلوذ به النقد الوطني الذي يتدهور سوقياً إلى نحو ضعفيْ قيمته "الرسمية"، تبرز أحياناً دعوات علنية من محللين وخبراء، وخفراً من قبل مسؤولين في مجالس مغلقة،  إلى التفكير جدياً بتخطي المحظورات وتغليب الضرورات، عبر استثمار هذا المخزون أو بيع جزء منه بشروط مسبقة تضمن حصْر استخدام التسييل الجزئي، بالتوازي مع عقد اتفاقية طلب معونة مالية من صندوق النقد الدولي، وبحيث يتم الصرف تحت إشراف مؤسسات مالية دولية  وضمن سياقات خطةٍ إنقاذية متكاملة.

في المقابل، ثمة هواجس تتّسم بالجدية من خطرٍ يصيب احتياطي الذهب، جراء تداعيات وسيناريوات "الكباش" بين الدولة وحاملي سندات ديونها الدولية (اليوروبوندز) وذلك بعدما أعلنت الحكومة، بلسان وزارة المال، أنها ستعلّق دفْع كامل إصدارات السندات، وعددها 29 تصل آجالها توالياً حتى 2037، وبقيمة مجمعة تزيد قليلاً عن 30 مليار دولار.

ولاحتياطي الذهب حكايةٌ جذّابة تتماهى مع تاريخ لبنان. ففي أيام العزّ والبحبوحة، وخصوصاً خلال خمسينات وستينات القرن الماضي، قُيِّض للدولة رجال ختم حزمتهم من موقعه حاكما للبنك المركزي ، رئيس الجمهورية الراحل الياس سركيس، بادروا إلى شراء المعدن الأصفر تَحَسُّباً لاستقرار العملة ولغدر الزمن. وكانت للبلد سلطات تنفيذية وتشريعية حدّدت قيمة الليرة اللبنانية بالذهب الخالص، بحسب المادة 2 من قانون النقد والتسليف الصادر منتصف العام 1963. وتم توجيه جزء من الفوائض المالية وخلال فترات متتالية إلى شراء مخزون الذهب بأسعار متفاوتة وصل أعلاها إلى 35 دولاراً للأونصة الواحدة. والحصيلة كانت تكوين مخزون يوازي نحو 286.5 طنا أو 10.116 ملايين أونصة في الطبقات السفلية لمصرف لبنان المركزي.

وبقرار صائب من حاكمية البنك المركزي تم الشراء وتوزيع المخزون بين أميركا وسويسرا وبيروت. وفي الواقع، جرى حفظ القسم الأكبر من الذهب اللبناني في قلعة "فورت نوكس" في الولايات المتّحدة. وجاءت الأحداث لاحقاً لتؤكد صوابية الرؤية والقرار، بعدما دخلتْ البلاد في أتون حروب داخلية عاتية توالت فصولاً بين 1975 و 1990، وتخللها عدوان اسرائيلي واسع النطاق في العام 1982 أفضى الى احتلال أول عاصمة عربية، بعد القدس، في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي. وساءت الأمور أكثر مع تشرذم الدولة وسلطاتها واحتدام الصراع على الحكم والنفوذ بين القوى الشرعية ووقوى الأمر الواقع.

وفي أوج الحروب الداخلية التي شرعت الأبواب أمام نقْل الصراعات الاقليمية الى الساحات المحلية، بادَرَ الرئيس حسين الحسيني، رئيس مجلس النواب آنذاك، الى إعداد وتسريع إقرار قانون خاص حمل الرقم 42 ، بتاريخ 24 سبتمبر 1986 ، وفي نصه: "بصورة استثنائية وخلافاً لأي نص، يُمنع منعاً مطلقاً التصرف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان أو لحسابه مهما كانت طبيعة هذا التصرف وماهيتهأ سواء أكان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلا بنصٍ تشريعي يصدرعن مجلس النواب".

وترد في الأسباب الموجبة للقانون 42/1986 الذي منع التصرّف بالذهب منعاً باتاً العوامل التي أدّت إلى صدوره، وفي مقدّمها ارتفاع الإنفاق العام بعد انتزاع عدد من صلاحيات مجلس النواب وتفويضها إلى الحكومة ومجلس الإنماء والإعمار، ونمو المضاربات التي كانت تنتهجها المصارف وكبار المودعين على سعر صرف الليرة لجني أرباح إضافية، وهيكلية الاقتصاد اللبناني القائمة منذ الخمسينات على الخدمات والسياحة وهو ما أدّى إلى تَنامي العجز والتضخم والدين خلال الحرب، وتراجُع إيداعات المغتربين، وضرْب القطاعات المُنْتِجة التي بدأت تنمو في مطلع السبعينات، وارتفاع حجم الاستيراد. فضلاً عن تَقَلُّص سلطة الدولة على المرافئ وتَراجُع إيراداتها من الهاتف والكهرباء.

وفي السجلّ التاريخي الذي جمعتْه ونشرته حركة "مواطنون ومواطنات في دولة"، امتلك لبنان الذهب للمرّة الأولى العام 1948 بمقدار 1.5 طن وفق بيانات مجلس الذهب العالمي، بعد انضمامه إلى صندوق النقد الدولي العام 1947 والاعتراف بالليرة اللبنانية كعملة مستقلّة، بحيث تمّ فكّ ارتباطها بالفرنك الفرنسي، وحدّدت قيمتها بما يوازي 0.455 ملغ من الذهب، وتحديد صرفها بسعر 2.20 ليرة لكل دولار أميركي.
ونتيجة ذلك، بدأت الحكومات المتعاقبة بشراء الذهب لزيادة احتياطات المصرف المركزي. وكان لصدور أول قانون نقد لبناني العام 1949 دوراً أساسياً في زيادة عمليّات الاستحواذ على الذهب، وخصوصاً بعدما حدّد شروط إصدار العملة، على أن يكون 50 بالمئة من قيمة النقد المتداول مغطّى بالذهب والعملات الصعبة و50 بالمئة منه بأوراق حكوميّة مختلفة. ونصّ على رفع نسبة التغطية الذهبيّة من 10 بالمئة إلى 30 بالمئة بين عامي 1949 و1952، فنشطت عمليّات شراء الذهب، وتجاوز معدّل التغطية الذهبية للنقد المتداول المعدّل المُحدّد قانوناً وبلغ نحو 90 بالمئة العام 1954.
ترافق ذلك مع تحرير نظام القطع المُعتمد للعملات الأجنبيّة (تداول العملات الأجنبية) من أي رقابة العام 1952. فأصبحت كل المعاملات بالعملات الأجنبية تجري بأسعار السوق الحرة، وبات نظام الصرف معوّماً، أي خاضعاً لعمليات العرض والطلب على العملة في السوق.

ولم يتخلَّ لبنان عن سعر الصرف الرسمي المربوط بالذهب الذي تم توافق عليه مع صندوق النقد الدولي، إلّا أن استخداماته اقتصرتْ على معاملات الدولة فقط. كما لم يتوقّف عن شراء الذهب إلّا في العام 1971 حين وصل مخزون الذهب إلى 286.5 طناً، أي بعد القرار المنفرد الذي اتخذته الولايات المتحدة وقضى بفكّ ارتباط كلّ العملات العالمية بالذهب وفرض الدولار بديلاً للذهب كاحتياطي يغطّي قيمة العملات الأخرى.

 

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي