ابتسامة الوابي سابي!
كثيراً ما أتلقّى اقتراحات مجانية، ممهورة بفيض من النصح المتعاطف، تحضّني على إجراء تقويم لأسناني حيث إن لديّ رَبَاعية بارزة في فكي العلوي (والرَّبَاعية بالفصحى السن التي تلي الثنيّة/ القاطع). وهذه النصائح المشفقة تأتي مع إغراءات تشرح تقدّم وسائل التقويم، وإمكانية إجراء هذا التعديل من دون اللجوء للتقويم التقليدي. وأمام كل هذه العروض، لا أملك أن أجيب بإجابة واحدة: «لكني أحب ابتسامتي جدا» وأبتسم ابتسامة عريضة تظهر رباعيتي البارزة الثائرة وكأنها تمد لسانها هازئة هازلة! يصمت البعض احتراما لرأيي، في حين يصمت آخرون وأشعر بهم يهمسون في أنفسهم «تؤ، تؤ، تؤ» شفقةً عليّ من حالة الإنكار التي أعيشها!
لا يمكننا أن نَفْصِل الإجراءات التجميلية التي تتكاثر في أيامنا هذه كتكاثر الفطر في البريّة، أقول لا يمكننا أن نفصِلها عن معايير الجمال التي أثبت التاريخ أنّها متغيّرة! فما نراه جميلا في عصرنا هذا، كان يُرى من علامات القبح في عصر ما. وأتذكر أني أمضيت طفولة أسمع فيها مديحا للشفاه الصغيرة الرقيقة، حتى أني لا أصدق كيف صارت الشفاه الغليظة مما يُستملح، الشفاه التي كانت ستثير سخرية لو وجدت قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن. من يصدّق أن سُمرة البشرة ستكون أمرا تنفق الأموال والأوقات في سبيله في مجتمعنا، في حين كان بياض البشرة أمرا تنتصر به الفتاة جماليا على غريماتها. وإذا عدنا بالتاريخ إلى نقطة أبعد، نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن التفلّج، وهذا أمر صادم للوهلة الأولى، فمن التي تسعى لإحداث فتحة بين أسنانها والناس يسعون لسد الفتحات بين أسنانهم إذ إنها تمنحهم مظهرا قد يراه الكثيرون مضحكا؟ لكن صدقوا أو لا تصدقوا، كانت النساء في الجاهلية يعمدن إلى تفليج أسنانهن لأن هذا يعطيهن ابتسامة قريبة من ابتسامة الأطفال، فيبدون أصغر! واستقصاء تغير معايير الجمال بتغير الزمن مبحث لطيف ومتشعب شأنه شأن استقصاء اختلاف معايير الجمال بين الثقافات والشعوب؛ وقد يكون القارئ الكريم ممن صُعق يوما حينما عرف أن الصينيات كن يضعن أقدامهن في قوالب ضاغطة كي لا تنمو لأن القدم الصغيرة من علامات الجمال، وأن الأفريقيات يشققن شحمات آذانهن ويحشونها بدوائر مصنوعة من العظام.
***
وبعد أن عرفنا أن الجمال نسبيّ ومتبدل، لا بد أن نسأل، ما العوامل التي تحمل مجتمعا ما في عصر ما أن يقرر أن الهيئة الفلانية جميلة مُستحسنة؟
1 - الندرة. من عادة البشر أن يرغبوا فما عزّ نظيره، وقلّ وجوده. من المواقف الطريفة التي مرت بي، أن امرأة من دولة شرق آسيوية أرادت امتداح جمال امرأة ما، فقالت لها إنّ «أنفك جميل وطويل»! فشعوب اعتادت على الأنف المسطّح، تقدّر الأنف المديد، وأمّة ألفت العيون الضيقة، نجدها ترغب بشكل مبالغ فيه في العيون الوسيعة. فنجد مثلا المسلسلات اليابانية (الأنمي) وقد أتتنا بشخصيات لها عيون متسعة اتساعا مخيفا تكاد تلتهم شطر وجوهها. ورغم أن العيون الواسعة مرغوبة في جل الثقافات إن لم يكن كلها، لكنّ إكبار الشعوب ذات العيون الضيقة للعيون النجلاء لا يمكن أن يقارن بإكبار العرب لها مثلا.
2 - الأسباب الاقتصادية. كان العرب في السابق يفضلون السِّمَن إذ أنّه دليل على البحبوحة الاقتصادية وكثرة الطعام. وفي الشعر العربي ما يدل على تفضيل الممتلئة بل والسمينة. واستمر هذا التقليد حتى عهد قريب، حيث كان البطن الضخم ذا دلالة طيبة، ويسمى «كرش الوجاهة»؟ وهذا ليس حصرا على العرب، فالفرنسيون مثلا يقولون Le ventre ennoblit أي أن البطن الكبير يمنح المرء النبالة! في لهجاتنا العامية، نجد أن الكلمة الدالة على السِّمَن لها دلالات إيجابية مرتبطة بالعافية والقوة، فنقول: «فلان متين، فلان متعافي».
وكذلك تفضيل بياض البشرة في ثقافاتنا، فدليل أيضا على الدعة الاقتصادية. ومن هنا جاء التعبير «جِلد المخبَّأَة»، فهي مكنونة لا تتعرض للشمس المحرقة، فتحتفظ بشرتها بلونها الصافي. ولمثل هذا السبب هذا يملك أمرا مثل إطالة الأظافر وصبغها هذه القوة الجمالية، لأنه دلالة على الرفاهية، فمن تملك أظافر كهذه حتما لم تبتذلها في أعمال المنزل ولا في الأعمال الشاقة. وصارت السُّمرة اليوم محبذة لأنها دليل على ترف ارتياد الشواطئ، والنحافة كذلك لأنها دليل على رفاهية انتقاء الطعام. فكل هذه التفضيلات الجمالية، كسبت مكانتها من دلالتها على البحبوحة.
3 - الوفرة. أجل! قد تكون الندرة سببا في سبك معيار جمالي، لكن الوفرة قد تكون سببا في سبك آخر أيضا. فنجد العرب يتغنون بالعيون السوداء، والشعر الأسود، وهو مما يشيع عندهم. ونجد في ثقافات أخرى حيث تشيع العيون الزرقاء، مدحا لها وتشبيها بزرقة السماء. ويبدو أنها نزعة البشر في الاحتفال بما يشيع عندهم، فيرضون به، ويعدونه مما يستحسن. وهذا المعيار ناجح للاستهلاك العام، فنجده في الأشعار والأمثال، لكن تظل الذائقة الشخصية تميل للندرة. فنجد ابن حزم الأندلسي تائها بين الوفرة والندرة. فهو يهيم بجارية شقراء، وفي وجهه تراث ثقافي يبجّل الشعر الأسود. لكن ابن حزم قرر الانتصار للشُّقرة:
يعيبونها عندي بشقرة شَعرها
فقلت لهم هذا الذي زَانها عندي
***
ترى كثير من الثقافات أن الجمال يكمن في الاتساق والتناظر، فتفضل الأسنان المصفوفة بانتظام. هكذا سار التاريخ وقتا طويلا، لكن هذا أمر آخذ بالتآكل. فثقافة العالم اليوم -وقد غزتها العولمة- لا تبحث عن التناظر بل عن التضخم والإفراط. فيقدس الناس الأسنان المفرطة في بياضها والمبالغ في اصطفافها، ويقدسون انحناءات الجسد الأنثوي المصنعة والتي يستحيل أن توجد بشكل طبيعي، ويمجدون العضلات الرجولية المنفوخة بفضل حقن الهرمونات والمحفزات. وهذه الموجة الجمالية الجديدة ستأخذ وقتها، وستأتي موجة جديدة، ترى الجمال في العيوب والنقصان بعد أن يكون هذا العالم قد أصابه القرف من كل هذا الجمال الكامل الذي لا شِية فيه، بل الذي وصل به الكمال حد الإفراط. وحينها يكون وقت موجة الـ «وابي سابي»؛ وهي ثقافة يابانية، تقدّر جمال العيوب! فهي تستملح كوب الشاي المصنوع يدويا والذي فيه شق ما، أو الذي تحركت يد من كان يرسم عليه، فخرج اللون عن حدوده المقررة. ثقافة تقدّر الجمال الطبيعي، الذي يستحيل ألا يعتوره نقصان.
وحين تأتي موجة الـ«وابي سابي»، سنجد الناس يهرعون إلى أطباء التجميل، يودون اصطناع عيوب وثلب جمالهم كي يصلوا للمعيار الجديد للجمال. حينها سيتقاطر الناس على أطباء الأسنان ليعوجوا أسنانهم، ومن يدري، قد يطلب بعضهم رباعية بارزة مشاكسة كتلك التي في فمي! خاصة إذا قرأ ما قاله الشاعر إبراهيم ناجي، الذي وقع في غرام فتاة لها سن مكسورة، وتلثغ في حديثها جراء ذلك، كان شاعرنا يرى أن هذا من دواعي الجمال في حبيبته!
وَرَأَيْـتُ في الفَـمِ بِدْعَـةً
خَـلاّبَـةً مُسْتَعْذَبَـةْ
إحْـدَى الثَّـنَايَا النَّـيِّـرَا
تِ بَدَتْ وَلَيْسَ لَهَا شَبَهْ
مَثْلُـومَـةً مِـنْ طَرْفِهَـا
لا تَحْسَبَنْهَـا مَثْلَبَـةْ
هِيَ لَوْ عَلِمْـتَ مِـنَ الْـ
مَحَاسِنِ عِنْدَ أَرْفَعِ مَرْتَبَةْ
هِيَ مَصْدَرُ السِّيْنَاتِ تُكْـ
سِبُهَا صَدَىً مَا أَعْذَبَـهْ
هذا جمال الاختلاف أيها العالم المقولب، الطافح بجمال مصانعيّ، عالم غدا فيه البشر كأكواب البلاستيك المتماثلة التي ترمى بعد أول استخدام. عالم يقف في وجهه كوب مثلوم صنعته يهد مهتزة فلم تتقن الرسمة عليه، وعالم تقف في وجهه كاتبة مشاغبة ترفض تقويم أسنانها!