No Script

خواطر تقرع الأجراس

هل نجلد الشعراء؟

No Image
تصغير
تكبير

الشعر دون انفعالات وجدانية يفقد سراً أساسياً من أسراره التعبيرية في التأثير الفني والنفسي لدى المتلقي. فوظيفته الجوهرية تتمثل في إثارة الأحاسيس أو الانفعالات الجمالية. وهو يشترك بهذه الوظيفة مع أشكال الفنون الجميلة وفنون الآداب؛ ففي الرواية فكرٌ وعقل واعٍ، وإن كانت الرواية الناجحة لا تخلو من شعرية الشعر في الوصف والسرد والحوار.
 سعيد عقل يرى أن اللاشعور أرقى من الشعور. أي فن الشعر أرقى من فنون النثر؛ فالشعر طغيان الانفعال الوجداني المعبر عن مكنونات اللاشعور. طبعاً لا يمكن إغفال الفكر والعقل الواعي عند كتابة الشعر حتى لا يصبح مجرد هذيان لا شعوري.
 لكن يطغى الانفعال الوجداني في الشعر على بقية العناصر الفنية فيه. وهذا الطفيان الوجداني يصبح أحياناً «طاغية» يستبد بالشاعر فيبدو متناقضاً في الظاهر فقط. وعلينا ألّا نحكم على الشاعر بأحكام سلبية تعيبه عندما نضع هذا التناقض في سياقه الخاص.
 مثلاً، يقول نزار قباني:
إياك ان تقرأ شيئاً من كتابات العربْ
فحربهم إشاعة وسيفهم خشبْ
وعشقهم خيانة، ووعدهم كذبْ
إياك أن تسمع حرفاً من خطابات العربْ
فكلها نحوٌ وصرفٌ وأدبْ
 هذه الانفعالية لا يمكن أن نحكم عليها إلا في سياقها الخاص؛ فهو لا يذم العرب كجنس أو قومية أو حضارة أو تراث، بل هي غضبة الشاعر الانفعالية. وهي ليست كعقلية الباحثين. الأم حين تغضب على ولدها تدعو عليه... فقلبها يتوسل لربها بخوف ورجاء: يا الله لا تستجب لدعائي!
 نحن نغضب ونتهم ونلعن ونشتم ونجلد ذاتنا... وحين يلعننا الغرباء ويشتمون تاريخنا وهويتنا وحضارتنا نغضب أشد الغضب وننسى انفعالاتنا الشعرية الواعية واللاواعية وندافع عن كل مكوناتنا، ندافع عنها... وعنا!
 هذه هي غضبة الشعراء، والغضبة النزارية لها نكهة خاصة حارقة لاذعة، لا كالغضبة المضرية لابن بُرْد:
إذا ما غضبنا غضبةً مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو تمطرَ الدما
تصوروا لو قال ما قاله نزار شاعرٌ صهيوني فماذا سيكون رد فعلنا؟ مع الاعتراف بكل سلبياتنا وعاهاتنا قديماً وحديثاً. السياق النزاري هنا هو جلد «بعض» الحكام العرب المتخاذلين الذين يقولون ما لا يفعلون... مثل كثير من الشعراء!
وانظروا الآن إلى نزار نفسه بانفعال آخر في سياق مختلف في قصيدته المشهورة عن غرناطة ومنها:
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا
ما أطيب اللقيا بلا ميعادِ
هل أنتِ إسبانية؟ ساءلتها
قالت: وفي غرناطة ميلادي
غرناطة! وصحت قرون سبعة
في تَيْنك العينين بعد رقاد
وأميَّةٌ رايـاتــُها مرفوعةٌ
وجيادُها موصولة بجياد
قالت هنا الحمراء زهو جدودنا
فاقرأ على جدرانها أمجادي
أمجادها! ومسحت جرحا نازفاً
ومسحتُ جرحاً ثانيا بفؤادي
يا ليت وارثتي الجميلة أدركت
أن الذين عنتهمُ أجدادي
عانقت فيها عندما ودّعتها
رجلاً... يسمى طارق بن زيادَ
 نزار لا يجلد الذات هنا، ولا يلعن أو يشتم العرب، بل يمجّد حضارتهم الأندلسية، حضارة أجداده، بانفعالية تراجيدية وجدانية طاغية خارج الفكر والوعي السياسي، الثقافي، الإنساني... فنحن لم نكن في الأندلس «وقد يُغضب هذا البكّائين على ضياع الفردوس المفقود» سوى محتلين لقرون قاربت الثمانية، كالرومان والإسبان والطليان والفرنسيين والبريطانيين في بلادنا!
 كيف نحكم على انفعالية الشعراء؟ هل نجلدهم بمقاييس فكرية واعية صارمة، أم بمعايير فنية وجمالية وفق السياقات الخاصة للنص والشاعر والحدث؟. هل نحكم بالحقيقة الوجدانية، الكاذبة فنياً، أم بالحقيقة العلمية وقوانين العقل المنطق؟.
لكم الله أيها الشعراء!

 * شاعر وناقد سوري

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي