No Script

قراءة نقدية

«شغف» رشا عدلي... إضاءة ما أهمله التاريخ

تصغير
تكبير

ثمة سؤال بشأن ما هو مطمور في سياق التاريخ الرسمي والسبيل لإضاءة مرويات منزوية في العُتْمة. قد يكون الدافعُ الأساسي وراء تأليف الروايات التاريخية هو صياغة ما اعتبرته النخبة الحاكمة هباء المعني في قوالب سردية مُفارقة لسرديات السلطة، إذ تدرجُ رواية «شغف» الصادرة من الدار العربية للعلوم وناشرون ط 2017 للكاتبة والروائية المصرية رشا عدلي، ضمن محاولات استنطاق ماهو مسكوت عنه في التاريخ.
 
عشق الإمبراطور
تقوم أحداث الرواية على رصد وقائع زمنين مفصلين، الأول زمن حملة نابليون بونابرت على الشرق واحتلاله لمصر. والثاني زمن ما بعد ثورة 25 يناير في مصر. وتتناوبُ وحدات مُعبقة بنفحات زمنين على مساحة الرواية. وتتخلل في تجاويف الرواية جوانب من حياة البطلة ياسمين، وما يشبه العقدة لديها من علاقات عاطفية عقب انتحار أمها عندما تصطدم بمعرفة خيانة زوجها مع صديقتها المقربة. وما تطلق الجولة السردية لاستعادة تفاصيل وقائع غزو نابليون لمصر، هو عثور ياسمين على لوحة أحيلت على قسم الترميم في كلية الفنون.
وبما أن البطلة مُتخصصة في تاريخ الفن، لذا من الطبيعي أن تثير اللوحة اهتمامها، وتنقب عن هوية صاحبها الأمر الذي يستدعي الإشارة إلى حادثة حرق المجمع العلمي المصري في 16 ديسمبر 2011 التي أُتلف على اثرها كثير من الوثائق والمخطوطات وما سلم نُقل إلى مخزن متحف الجيزة.
من هنا، تبدأُ رحلة البحث التي تنتهي في أرشيف متحف العسكري في باريس بعد الإبحار في لجج المعلومات التي تقدمها خدمة Google إلى جانب ذلك يُتابع المُتلقي أجواء مصر إبان حكم الفرنسيين وما شهدته أرض الفراعنة على مستوى البنية الفوقية.
لكن ما تعتمدُ عليه الرواية لشد وحداتها، هو وقوع نابليون في غرام «زينب» ذات الـ 16 عاماً من جانب، وعلاقة الأخيرة بألتون جرمان، الرسام الذي أبى أن يجندَ ريشته في خدمة المشروع الإمبراطوري من جانب آخر... وما يضفي مزيداً من التوتر الدرامي على القصة ثلاثية الأطراف أنَّ زينب هي ابنة أحد مشايخ الأزهر، غير أن موقعه الديني لا يمنعه من ارتياد ما ينظمه الإمبراطور من حفلات باذخة برفقة ابنته إلى أن تندمج زينبُ في حاشية نابليون ومن ثمُ ينتشر خبر عشق القائد الفرنسي بفتاة مصرية.
ويُفهم من سياق ما يتوارد من المعلومات في الرواية، أن اندفاع نابليون في حبه لهذه الفتاة ما هو إلا رد فعل لخيانة عشيقته جوزفين مع رجل يدعي باوبليت، وهذا ما يذكرك بقصة خيانة أخرى وردت في مطلع الرواية.

صيغ متنوعة
 يُشار إلى أنَّ الصيغ السردية لتحبيك مواد المسرودة، جاءت متنوعة بين السرد الموضوعي والذاتي كما وظفت الكاتبة خبرتها في مجال الفن التشكيلي لصك عبارات مشحونة بإيحاءات بصرية لاسيما في الشق الذي تستعرضُ فيه ياسمين موضوع لوحات ألتون جرمان التي ترصد معيش المصري وسلوكياته الحياتية، والكسبة بائع العرقسوس والسقا.
يدفع الرسام ثمن منهجه المتبع في أعماله الفنية وعدم انصياعه لنزوات نابليون، فيأمرُ الأخير بإقصاء لوحاته من موسوعة وصف «مصر». ما يلفت الانتباه انَّ لوحة زينب تنزعُ دور البطولة وتُمَثلُ نواةً في بناء الرواية مثلما تجد الحالة ذاتها في رواية «السنة المفقودة» لبيدرو ميرال و«عيناها» لبزورك علوي و«شيفرة دافينشي» لدان براون. وما يزيدُ من أهمية هذا العمل الفني، هو لحظة اكتشافها مُتزامنةً مع ما ساد عقب ثورة 25 يناير من القلق والتوتر وضبابية الرؤية، وهذا الموقف لا يختلف عما كانت تعيشه مصر في ظل دولة المماليك ومن ثم في عهد نابليون.

عبقرية مغمورة
يستشفُ المتلقي وجود رؤية غربية مختلفة لما سُجل في المدونات الاستشراقية في فهم تاريخ الشرق، إذ كانت الصورة المنطبعة على العقلية الغربية لهذه المنطقة الجغرافية هي ما نهله الغربُ من حكايات «ألف ليلة وليلة»، وقصائد المجون... فبالتالي غزت صورة شهوانية مُنمطة مخيلة الغربيين الأمر الذي يبدو بالوضوح في اللوحات التي رسمت نساء الشرق وجلسات الإمتاع والمؤانسة.
لكن جرمان بخلافهم، لم ينجرف وراء الاتجاه الحسي مثل دي لاكروا ولا خلد بطولات نابليون كما فعل ذلك الرسام الشهير كارفايلي ودومنيك فيفانت دينون، إنما فضل سرد وجه آخر من الحدث. فبدلاً من الاهتمام بانتصارات فرنسا كان يستلهم إرادة المصريين وثورتهم على المحتل في لوحاته. كما صورَ معاناة الجنود بعد هزيمة الجيش الفرنسي في عكا وتعاظم حجم الضحايا بعد استفحال وباء الطاعون.
ولكن ما يجسد خزين عبقرية جرمان، هو لوحة «زينب» التي ضمنها ضفائر شعرها التي قصتها حتى لا يعبث بها الإمبراطور الذي أعجب بتموج خصلاتها.
ان قصة الحب بين ألتون وزينب توازنها قصة شريف والخبيرة في تاريخ الفن ياسمين، كما أن رحلة التنقيب عن صاحب اللوحة واكتشاف هويته تأتي بمحاذاة قرار الاثنين بتتويج علاقتهما برباط أبدي بعد ارتقاء العلاقة إلى المستوى الحسي المباشر في باريس، وهذا ما يفرقها مما وصل إليه كل من زينب وألتون من نهاية تراجيدية، فالأولى يُقصف رأسها بعدما يتنكر لها الشيخ خليل البكري، والثاني يذهب ضحية لوباء الطاعون.
للرواية لها أبعاد نفسية وتاريخية وثقافية، تُمثلها الشخصيات المتوزعة على جنباتها والأحداث والإحالات إلى شخصيات تاريخية ودينية، مثل كليبر وجلال الدين الرومي، إضافة لما للبعد المكاني من دلالات ثرية مثل القونية بوصفها مدينة روحانية، والاسكندرية وما شهدته من الازدها الثقافي والحضاري.
عطفاً على كل ما سبق، فإنَّ «شغف» تحتفي بنفحات الأماكن التاريخية في القاهرة كما تنعكس ثقافة الروائية ودرايتها في تاريخ الفن داخل فضاء الرواية.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي