No Script

خواطر صعلوك

لسنا من دول اقتصاد الليل!

تصغير
تكبير

لا أقصد بكلمة اقتصاد الليل الإشارة إلى باعة متجولين بين المقاهي في المناطق المزدحمة سكانياً وهم يحملون ليلاً أكياساً تحوي بضائع رخيصة، ولا أقصد أيضاً الذين يعتلون الأرصفة أمام الجمعيات التعاونية في الليل خوفاً من الإدارة أو الذين يعتلون الدوار ليلاً خوفا من الشرطة.
ولا أقصد الواقفين عند الإشارات الضوئية بعد السابعة مساء للبيع، ولا الخادمات الهاربات من كفلائهن، اللواتي يتخفين في بعض شقق العزاب حيث يكون العقد بينهم عبارة عن السكن مقابل الخدمة الليلية، وهو شيء شبيه بالأرض مقابل السلام!
كل هؤلاء لا يصح أن نطلق على ممارساتهم مصطلح اقتصاد الليل، بقدر ما يصح أن نطلق على ممارساتهم اقتصاد ظلم النهار.


وما أقصده بكلمة اقتصاد الليل مجموع الممارسات اللا أخلاقية التي تتمثل في الدعارة والمساج النسائي المدعوم بقائمة أسعار مختلفة، وحانات تقدم مساحات آمنة قانونياً للقمار ولشرب خمور عالية الجودة بثمن بخس، مع فتح البلد لجمهور من القادمين الجدد القادرين على الدفع في الليل أكثر من النهار مع خلط واضح بين «الترفيه» والاستهلاك و«الثقافة» والتنمية في زمن يولي الدخول الاقتصادية ومنحنياتها أهمية أكبر من الروابط الاجتماعية وقيمها المحلية.
ولا أدري إلى أي مدى تسمح اللغة الصحافية في التبسيط أكثر من ذلك، ولكنني أعتقد أنك ستفهمني تماماً إذا ما استخدمت مصطلحاً شعبياً يوضح ما أقصده بكلمة اقتصاد الليل (اقتصاد فاتحها على البحري)! يشرف عليه رجال يعتقدون أن الهوية أحد عوائق التنمية، ويعتقدون أن التراث هو مجرد لهجة الماضي وطريقتهم في الكلام.
ومن أروع المقالات التي قرأتها أخيراً، مقال رزين للبروفيسور أكبر عباس، أستاذ الأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا، حيث يأخذنا في رحلة عبر الهوية والتاريخ بين مدينة شنغهاي وبين مدينة هونغ كونغ ليدلل على كذب فكرة أن التنمية والمحافظة على التراث لا يتفقان... فيتوهج المقال بمقولتين هما الأصدق على الإطلاق، الأولى هي أن الحفاظ على التراث هو شيء أكثر تعقيداً من مجرد تذكر الماضي، والثانية هي أن المحافظة والتراث لا يعملان ككوابح للتنمية.
وربما من الأشياء التي تستوجب الشكر لله والسجود له، هو أن الكويت ليست ضمن دول اقتصاد الليل، ولكن هذا لا يعني أننا لسنا بحاجة إلى الدعاء لله والعمل على الأرض من أجل رسم مسار اقتصاد، ما يجعلنا نقلع من قاعة الانتظار، ونعرف «كوعنا من بوعنا».
وما نلاحظه دائماً من الشعوب الخليجية والعربية عندما تتحدث عن الكويت لتعبر عن أسفها لما آلت إليه أمورها، أنها لا تشير إليها بوصفها دولة صناعية كانت تتميز بمنتجاتها أو زراعية تتميز بتمورها، ولكنها تشير إلى دورها الريادي الثقافي المتمثل في حريتها وتنوعها في فنونها عبر المسرح والإذاعة والتلفزيون والأدب والشعر وعالم المعرفة ومجلة العربي وعالم الفكر ومطبوعات المسرح العالمي ومجلات الثقافة العالمية.
بل لن أبالغ إذا قلت إن ثاني منتج صدرته الكويت بعد البترول كانت الموسيقى والطبع وفنون المسرح والإذاعة والأزياء والرياضة، للدرجة التي جعلت أديباً كبيراً وصحافياً مخضرماً مثل محمود شاكر رحمه الله، يعتبر مسألة غزو العراق للكويت تهدم مستقبل الثقافة العربي والقضاء على العلوم والفنون والقضاء على أمة بكاملها وليس الكويت فقط. ويلفت د. محمد حسن عبدالله نظرنا إلى أنه في الوقت الذي لم يكن للكويت فيه أي تمثيل سياسي أو ديبلوماسي في مساحة الوطن العربي العام 1958، صدرت الكويت أول أعدادها من مجلة العربي، أي قبل إعلان الاستقلال عن بريطانيا بثلاث سنوات.
إن الكويت أكبر من ماركات وعلامات تجارية معروفة لا تقدم شيئاً للكويت، وهذا يجعلنا نتساءل حول الدور الاقتصادي للثقافة الكويتية حسب المعايير العالمية اليوم للمدن الإبداعية، خصوصاً وأن منظمة اليونسكو اعتبرت الصناعات الثقافية الأسرع نمواً في العالم وأنها خيار إنمائي مستدام يقوم على الإبداع البشري.
لذلك، أعتقد أننا لا نحتاج إلى «ثقافة التنمية» التي استهلكت حتى آخر بورد كندي، بقدر حاجتنا إلى «تنمية الثقافة» عبر تمكين المنصات الثقافية بأنواعها والمهنيين والممارسين والعاملين في مجال الثقافة وسائر المواطنين من ابتكار سلع وخدمات وأنشطة قائمة على اقتصاد المعرفة وتعيد للكويت دورها الريادي الثقافي.

كاتب كويتي
moh1alatwan@

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي